محمد جسوس العالم
الذي أدمج السوسيولوجيا في النضال الاجتماعي والسياسي
الطاهر الطويل
خاص بالمجلة
برحيل العالم الجليل الدكتور محمد جسوس،
تكون السوسيولوجيا المغربية قد رزئت في أحد روادها البارزين والمؤسسين، الذين
عملوا على وضع لبناتها الأولى بالجامعة المغربية منذ حوالي أربعين سنة، حيث ساهم
في انفتاح الطلبة والباحثين على «مقاربات نظرية وممارسات ميدانية جديدة، سمحت
بتأسيس خطاب سوسيولوجي متميز بعقلانيته ونزعته النقدية من جهة، وبحرصه على التقيد
بالاشتغال في حدود العلم ووفق ضوابط ومقتضيات كانت بدورها في طور التأسيس»، مثلما
سجلت ورقة أكاديمية قدمت خلال حفل تكريم محمد جسوس قبل نحو سنتين.
كان جسوس يؤمن دائما بضرورة انخراط
السوسيولوجيا في النضال السياسي والاجتماعي وفق رؤية نقدية معرفية، حتى لا يبقى
الباحث السوسيولوجي منعزلا عن سياقه ومحيطه. هذا الاقتناع مارسه عمليا جسوس الذي ولد
في فاس عام 1938، ودرس علم الاجتماع أولا بجامعة «لافال» بكندا، ومنها حصل سنة
1960على شهادة «الميتريز» في موضوع «حضارة القبيلة في المغرب: نموذج سوس»، ثم نال
شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، سنة 1968، من جامعة برنستون بالولايات المتحدة
الأمريكية في موضوع «نظرية التوازن ومسألة التغير الاجتماعي». ليقفل عائدا إلى
المغرب ممارسا للتدريس الجامعي بكلية الآداب بالرباط، وممارسا في الآن ذاته لنضال
سياسي مختلف في أحضان اليسار. من بين أعماله كتاب: «رهانات الفكر السوسيولوجي
بالمغرب» الصادر عن وزارة الثقافة، وكتابا «طروحات حول المسألة الاجتماعية» و«طروحات
حول الثقافة والتربية والتعليم» الصادران ضمن منشورات جريدة «الأحداث المغربية».
سوسيولوجيا نقدية
من أهم ما ميز الراحل محمد جسوس ـ كما يقول
الباحث السوسيولوجي الدكتور مصطفى محسن ـ سعة فكره وتعدد وتداخل اهتماماته العلمية
والسياسية والاجتماعية المتباينة. ويوضح الدكتور محسن ـ في إحدى دراساته ـ أن جسوس
انشغل، منذ بداية مساره العلمي، بضرورة المساهمة في التأسيس لسوسيولوجيا نقدية،
تقطع، من جهة، مع أنماط من «المعارف» الكولونيالية ظلت، لمدة عقود وفي مجالات
بحثية واجتماعية معينة، محتكرة للهيمنة والتصدر، ولكن دون إلغاء أهميتها كلية. ومن
جهة ثانية، كان يريد لهذه السوسيولوجيا النقدية أن تظل منخرطة في سيرورة مشروع
كوني للعلوم الاجتماعية والإنسانية عامة، مشروع واع بمجمل الشروط والمحددات
السوسيوتاريخية والمعرفية المؤطرة والموجهة لـ»علميته» في سياق تبلوره نشأة وتطورا
وامتدادات متعددة... وواع أيضا بخصوصية السياقات المغايرة التي تنقل إليها مفاهيم
ونظريات ومناهج هذه العلوم.
هكذا إذن وكما نخبة متميزة من مُجايليه المفكرين، ومنا نحن تلامذة هذا الجيل من الرواد
هكذا إذن وكما نخبة متميزة من مُجايليه المفكرين، ومنا نحن تلامذة هذا الجيل من الرواد
ويتوقف الدكتور مصطفى محسن عند أهم القضايا
والإشكاليات التي اهتم بها محمد جسوس على النحو التالي:
ـ نقد المعرفة الغربية ـ وخاصة في علم الاجتماع ـ نقدا إيجابيا ومنتجا يقوم على التحليل والتفكيك وفهم الأبعاد والدلالات والمرجعيات وآليات الاشتغال... وليس نقدا يقوم على منطق ومقصديات النقض والدحض والاجتثاث... كما فعل البعض إزاء المعرفة الاستعمارية بل و الاستشراقية عامة، بل وإزاء بعض مكونات التراث العربي الإسلامي كذلك.
ـ نقد التعامل «التبعي الاتباعي» المطمئن مع هذه المعرفة، ولاسيما في بعض نماذج مفاهيمها وطروحاتها وتوجهاتها المتباينة... وأهمية التمييز في كل ذلك بين المعرفي والتاريخي، والعلمي والإيديولوجي- الثقافي.
ـ نقد المعرفة الغربية ـ وخاصة في علم الاجتماع ـ نقدا إيجابيا ومنتجا يقوم على التحليل والتفكيك وفهم الأبعاد والدلالات والمرجعيات وآليات الاشتغال... وليس نقدا يقوم على منطق ومقصديات النقض والدحض والاجتثاث... كما فعل البعض إزاء المعرفة الاستعمارية بل و الاستشراقية عامة، بل وإزاء بعض مكونات التراث العربي الإسلامي كذلك.
ـ نقد التعامل «التبعي الاتباعي» المطمئن مع هذه المعرفة، ولاسيما في بعض نماذج مفاهيمها وطروحاتها وتوجهاتها المتباينة... وأهمية التمييز في كل ذلك بين المعرفي والتاريخي، والعلمي والإيديولوجي- الثقافي.
ـ نقد الفهم «الخصوصاني» أيضا لهذه
المعرفة، والدعوة إلى إنتاج «سوسيولوجيا محلية أو إقليمية...»، مثل الدعوة إلى «علم
اجتماع عربي، أو مغربي أو أفريقي...الخ» وضرورة استبدال هذه الرؤية الاختزالية بما
اقترح توصيفه بـ»منظور نقدي منفتح» يكامل بين المشروع الكوني للعلم، وبين خصوصية
القضايا والإشكالات والظواهر التي يتخذ منها «موضوعا» للمقاربة والبحث في سياقات
سوسيوتاريخية وثقافية وسياسية وحضارية متباينة متنفذة ومعينة في الزمان والفضاء.
مدرسة
القلق الفكري
ويضع الباحث السوسيولوجي الدكتور عبد
الرحيم العطري أستاذه الراحل محمد جسوس ضمن خانة «مدرسة القلق الفكري»، مشيرا إلى
أن الراحل لم يكن مجرد عابر سبيل في خرائط الدرس السوسيولوجي، بل كان علما مؤسسا
ومنارة بارزة في تاريخ سوسيولوجيا ما بعد الاستقلال بالمغرب.
ويضيف قائلا: «أحبّته يعتبرونه مؤسسا ورائدا، فيما معارضوه يعتبرونه معرقلا لكثير من المشاريع التي لم تساير رؤاه واختياراته الإيديولوجية، لكنهم جميعا يقرون أنه الأستاذ العالم والمناضل السوسيولوجي الذي علمهم «حب الانتماء» إلى سوسيولوجيا النقد والتفكيك.
علاقة محمد جسوس بالقلم لم تكن طيبة، كما يسجل العطري مضيفاً أيضا: «كان مقلا في كتاباته، كان يميل إلى الشفاهي لا المكتوب، لكن هذا الميل لم يكن بالمرة ليقلل من قوة وأصالة منجزه، فالفكرة في جذوة التحليل وحرارة النقاش، تكون أكثر عمقا وتأثيرا. ولولا إلحاح بعض أحبته لما قرأنا طروحاته حول المسألة الاجتماعية في مستوى أول، وحول الثقافة والتربية والتعليم في مستوى ثان، والصادرتين معا ضمن منشورات جريدة الأحداث المغربية، ولا تعرفنا على رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب الصادرة عن وزارة الثقافة، والتي قدم لها و أعدها للنشر الدكتور إدريس بنسعيد.
في ذات «الطروحات» يعترف جسوس أنه «لا يتمنى إنتاج سوسيولوجيا جسوسية أو مدرسة جسوسية» مؤكدا بأنه «في الغالب الأعم إذا كتبت نصا، لا أكتبه إلا بعد النقاش، أتعلم الكثير جدا من النقاش والحوار مع الشباب، وإن كنت أشتكي بالفعل من أن مستوى الحوار قد تدهور كثيرا خاصة منذ منتصف الثمانينات إلى الآن».
في هذه الطروحات التي كشف في مفتتحها أسباب إضرابه عن الكتابة والنشر، سيعترف في ختام فاتحة القول بأنه نادم على انتصاره الطويل للثقافة الشفاهية، وأن الحاجة إلى المكتوب باتت أكثر إلحاحا، ما دام الطلب على السوسيولوجيا قد ارتفع، وما دامت أسئلة المجتمع في تواتر وإرباك مستمر.
تعددت موضوعات الاشتغال، وتواترت مدارات البحث والتفكير، لكنها في الغالب كانت منهجسة بحال ومآل المجتمع المغربي، عبر مساءلة تجلياته الريفية وأعطابه واحتمالاته القصوى في صياغة المشروع المجتمعي، فقد كان جسوس مفكرا على الدوام في حقلي السياسة والعلم، في العطب التنموي الذي يؤجل الانتقال ويجذر بالمقابل حالة التبعية والانهيار.
ليست الممارسة السوسيولوجية مجرد ترف فكري عند محمد جسوس، إنها مهمة نضالية لا تقتنع بالمقاربات الكسولة والمطمئنة، ولا تقف عند حدود الجاهز واليقيني، وبالطبع فمهمة السوسيولوجيا تقتضي جرعات عليا من الالتزام والجرأة، بحسب عبد الرحيم العطري.
ويضيف قائلا: «أحبّته يعتبرونه مؤسسا ورائدا، فيما معارضوه يعتبرونه معرقلا لكثير من المشاريع التي لم تساير رؤاه واختياراته الإيديولوجية، لكنهم جميعا يقرون أنه الأستاذ العالم والمناضل السوسيولوجي الذي علمهم «حب الانتماء» إلى سوسيولوجيا النقد والتفكيك.
علاقة محمد جسوس بالقلم لم تكن طيبة، كما يسجل العطري مضيفاً أيضا: «كان مقلا في كتاباته، كان يميل إلى الشفاهي لا المكتوب، لكن هذا الميل لم يكن بالمرة ليقلل من قوة وأصالة منجزه، فالفكرة في جذوة التحليل وحرارة النقاش، تكون أكثر عمقا وتأثيرا. ولولا إلحاح بعض أحبته لما قرأنا طروحاته حول المسألة الاجتماعية في مستوى أول، وحول الثقافة والتربية والتعليم في مستوى ثان، والصادرتين معا ضمن منشورات جريدة الأحداث المغربية، ولا تعرفنا على رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب الصادرة عن وزارة الثقافة، والتي قدم لها و أعدها للنشر الدكتور إدريس بنسعيد.
في ذات «الطروحات» يعترف جسوس أنه «لا يتمنى إنتاج سوسيولوجيا جسوسية أو مدرسة جسوسية» مؤكدا بأنه «في الغالب الأعم إذا كتبت نصا، لا أكتبه إلا بعد النقاش، أتعلم الكثير جدا من النقاش والحوار مع الشباب، وإن كنت أشتكي بالفعل من أن مستوى الحوار قد تدهور كثيرا خاصة منذ منتصف الثمانينات إلى الآن».
في هذه الطروحات التي كشف في مفتتحها أسباب إضرابه عن الكتابة والنشر، سيعترف في ختام فاتحة القول بأنه نادم على انتصاره الطويل للثقافة الشفاهية، وأن الحاجة إلى المكتوب باتت أكثر إلحاحا، ما دام الطلب على السوسيولوجيا قد ارتفع، وما دامت أسئلة المجتمع في تواتر وإرباك مستمر.
تعددت موضوعات الاشتغال، وتواترت مدارات البحث والتفكير، لكنها في الغالب كانت منهجسة بحال ومآل المجتمع المغربي، عبر مساءلة تجلياته الريفية وأعطابه واحتمالاته القصوى في صياغة المشروع المجتمعي، فقد كان جسوس مفكرا على الدوام في حقلي السياسة والعلم، في العطب التنموي الذي يؤجل الانتقال ويجذر بالمقابل حالة التبعية والانهيار.
ليست الممارسة السوسيولوجية مجرد ترف فكري عند محمد جسوس، إنها مهمة نضالية لا تقتنع بالمقاربات الكسولة والمطمئنة، ولا تقف عند حدود الجاهز واليقيني، وبالطبع فمهمة السوسيولوجيا تقتضي جرعات عليا من الالتزام والجرأة، بحسب عبد الرحيم العطري.
الملاحظة
واليقظة الإبستمولوجية
ويرى الباحث السوسيولوجي الأستاذ ناصر
السوسي أن المقدمة الأساسية للممارسة السوسيولوجية لدى محمد جسوس هي الملاحظة.
فالملاحظة كتقنية هي مرحلة أو إنها اللبنة المركزية في أي عمل ينشد العلمية ويتوخى
الموضوعية قدر الإمكان؛ على اعتبار أنها تمدنا بسلسلة من الفرضيات تكون قابلة
للاختبار باستمرار، وتثير فينا اليقظة الإبستمولوجية التي تشحذ روح الحذر والحيطة
من الإطلاقيات المثالية والتوجهات الدوغمائية التي تشكل عوائق فعلية أمام القبول
بلا نهائية الأحكام والإقرار بنسبية الأحكام والمقاربات والاستنتاجات.
من ثمة، فتضافر الملاحظة والفرضيات يمكننا بشكل كبير من المساهمة الفعالة في إعادة تشييد الواقع السوسيولوجي باستمرار ليغدو توليفا بين الذات والموضوع؛ وعند ذاك يحق لنا ـ حسب محمد جسوس ـ التساؤل عن مدى إجرائية كل الأشكال النظرية من بديهيات، ومسلمات، وإحساسات، وقوانين، وتوجيهات عامة. وكل أشكال»الخردة» المعرفية المعروضة في السوق الفكري، على حد تعبيره.
من ثمة، فتضافر الملاحظة والفرضيات يمكننا بشكل كبير من المساهمة الفعالة في إعادة تشييد الواقع السوسيولوجي باستمرار ليغدو توليفا بين الذات والموضوع؛ وعند ذاك يحق لنا ـ حسب محمد جسوس ـ التساؤل عن مدى إجرائية كل الأشكال النظرية من بديهيات، ومسلمات، وإحساسات، وقوانين، وتوجيهات عامة. وكل أشكال»الخردة» المعرفية المعروضة في السوق الفكري، على حد تعبيره.
فهم الآخر/
النقيض
وخلال أحد اللقاءات الاحتفائية بالدكتور
محمد جسوس، اختار الباحث الدكتور إدريس بنسعيد أن يعود بذاكرته إلى الوراء، إلى ما
يزيد عن أربعة عقود بقليل، ليتذكر الخلاصات التي خرج بها كطالب من دروس المحتفى
به، قائلا: «يتأسس الدرس السوسيولوجي عند جسوس على مبدأ الفهم، خاصة فهم الاختلاف
وفهم الآخر (النقيض) وفهمه الجيد. تعرفت مع جسوس لأول مرة على تحليلات ماكس فيبر
التي كانت تبدو لنا للوهلة الأولى بسيطة بل متجاوزة على الرغم من أنه لم يسبق لنا
الإطلاع عليها لنكتشف لا حقا أهميتها في إعادة صياغة الأسئلة الأساسية بالنسبة
للمجتمع المغربي. مع جسوس اطلعنا على الوظيفية وعلى نظريات أخرى نحن الذين كنا،
على خطأ نؤسس ونتخذ منها موقف رفض دون أن نعرفها جيدا.»
tahartouil@gmail.com
0 التعليقات: