مديح الغياب العالم و السياسي الذي لا يموت : عبد الرحيم العطري
خاص بالموقع
الكبار لا يرحلون، أي نعم لا يرحلون بقوة
"البقاء للأثر"، لكنهم ينسرقون منا على حين غرة، كما الخطيبي و الجابري و
يفوت و الدهان...يغيبهم الموت، و لا يغيب منجزهم، يغادرون في صمت بهيم، يرحلون، لا
يرحلون...أ حقا رحل عنا العالم و السياسي سي محمد جسوس؟ أحقا غادرنا البهي إلى دار
البقاء؟ من يصدق النعي؟
لما زرته في إحدى مصحات الرباط، في الغرفة 334،
بدا منتصرا على ألمه، منهجسا بحال و مآل المعرفة التي هاجر إليها و انتمى إليها، منشغلا
بأخبار حبيبيه إدريس بنسعيد و المختار الهراس، فرحا أيضا بزيارات الأوفياء من أمثال
جمال أغماني و عمر بنعياش و الصديق الصدوق طبعا عبد القادر باينة و آخرين كُثر لم تشغلهم
عنه متاهات الحياة و لا دسائس السياسة و "العلم".
لم يفرط في ابتسامته ضدا على الألم، كأنه يسخر من
هذا الموت القادم، يقول له مرحى ما دام قد أدى الرسالة و زهد في الحياة، لم يكن مطالبا
بتصفية الدين تجاه أحد، أعطى و تفانى في العطاء حد الامتلاء، فله أياد بيضاء، و إلى
غير المنتهى، على كثير من الباحثين و السياسيين و البسطاء في هذا الوطن. كان العالم
و السياسي و المربي و الإنسان الذي لم يمت فيه الإنسان، نذر حياته بالطول و العرض للعلم
و الأخلاق، فمرحى بالموت في زهو البهاء، لهذا كان يبتسم، يصارع الألم و يبتسم، كما
الكبار في مواجهة الغياب.
لربما يبتسم ساخرا من الذين سيفيدون من رحيله، و
سيهرعون لنظم قصائد الرثاء في مديح الغياب، الآن فقط ستصير "نبيهم السياسي"،
الآن فقط سيتزاحمون حول قبرك، ليس حسرة و انكسارا بسبب إلقاء النظرة الأخيرة، بل من
أجل التقاط صورة للذكرى و المباهاة. الآن فقط سيرثيك ذلك "الزميل" الذي...
و ذلك "الرفيق" الذي....، إنه الاعتراف الجنائزي، ذلكم ما نجيده في وطن بحجم
غرفة انتظار.
حتى أولئك الذين تخلوا عنك لما صحت عاليا
"إنهم يريدون خلق جيل من الضباع"، أولئك الذين عَزَّ عليهم الحضور في لقاء
تكريمي بهي، هندسه أصدقاء السوسيولوجيا بتطوان، و كذا في اليوم التكريمي الذي أشرف
عليه العزيز إدريس بنسعيد، أولئك الذين تعذر عليهم الحضور حتى إلى المصحة أو إلى البيت
طيلة السنوات القليلة الماضية، أولئك الذين يدمنون الاعتراف الجنائزي، سوف يحضرون،
لأنك بت غائبا غير مزعج بسؤالك النقدي، فنم قرير العين مرتاح البال، فالاعتراف يلهج
به الجميع، لهذا تبتسم شاكرا الموت على تغيير المواقف و الاستراتيجيات الفردية.
لا بأس أن نعود قليلا إلى الوراء لنكتشف ألق الفقيد،
ذات تكريم و اعتراف في الحياة لا الممات، فأول الكلام كان: "العلوم الاجتماعية
أداة للتحرر و النمو و التطور، و ما يميز السوسيولوجيا تحديدا هو ارتباطها التاريخي
بالحركات التحررية"، هذا ما استهل به الدكتور محمد جسوس كلمته بمناسبة تكريمه
الممهور بتوقيع عدد كبير من أحبته و طلبته و زملائه، الذين حجوا جميعا إلى تطوان، استجابة
لدعوة كريمة و باذخة وجهتها لهم جمعية أصدقاء السوسيولوجيا، التي آثرت أن يكون أول
الخطو في مسارها، اعترافا بما لمحمد جسوس من أياد بيضاء على الدرس السوسيولوجي بالمغرب.
دفء اللقاء أنسى الحضور بردا قارسا كان يداعب تطوان
منذ صباح الجمعة 17 دجنبر 2009، فما حدث بدار الثقافة بالحمامة البيضاء، كان مختلفا
بحرارته و حفاوته التي جعلت الدموع تخون المحتفى به أكثر من مرة، فالكلمات كانت قادمة
من الخافق، بلا زيف و لا تنميق، و التفاعل كان انسيابيا و تلقائيا من غير توجيه و لا
تأثير، فالرجل الذي اجتمع فيه "العالم و السياسي" يستحق فعلا هذا الاعتراف/
التكريم، اعتبارا لأصالة و قوة المنجز، و اعتبارا بالأساس لإسهاماته النوعية في تكوين
و تأطير أجيال علم الاجتماع بالمغرب.
تقدم الأستاذ إدريس بنسعيد في البدء متحدثا عن خصال
"معلم" فوق العادة، لم يكن ليرفضك و لو اختلفت معه سياسيا، مستعرضا العديد
من اللحظات الدالة في علاقته به، و التي لم تزدها الأيام إلا قوة و متانة، و هي اللحظات
التي تكشف أن الأمر يتعلق بعالم استثنائي يستمد حيويته من انتمائه إلى شرط السؤال و تدشين علاقات من الحب و الاحترام العلميين
مع الشباب و الباحثين.
يقول الأستاذ بنسعيد بأنه في إحدى مباريات الانتقاء الخاصة بالماستر،
أصر و زميله المختار الهراس على أن يحضر محمد جسوس للمساهمة في إجراء الامتحان الشفاهي
للطلبة، كان يعيان هو و المختار بأن الظروف الصحية لجسوس لن تسعفه في المكوث معهما
لأزيد من ساعة على الأكثر، لكن مع توالي المقابلات بدأ جسوس يستعيد عافيته و يناقش
و يوجه، بدءا من التاسعة صباحا، و إلى حدود العاشرة ليلا تقريبا. ففي اللقاء بالطلبة
و التفاعل معهم يتحقق الانتماء إلى مدرسة القلق الفكري، و يحدث التجاوز و التغلب على
المتاعب الصحية.
بعد كل هذه الكلمات تقدم العالم محمد جسوس إلى منصة
التكريم محاولا إلقاء كلمة بالمناسبة، عبثا حاول أن يسيطر على دموعه، عبثا حاول أن
يسيطر على كلماته، فحرارة و عفوية اللقاء كانت أكبر من المتوقع، تقدم جسوس متسائلا
عما تم إنجازه لحد الآن في الميدان السوسيولوجي، مؤكدا بأن معركة الوجود قد انتهت،
و أن الجهد يجب أن يتكرس اليوم لمعركة إثبات الوجود و الإسهام في التغيير التنموي.
تحدث جسوس بملء القلب عن التطور الكمي و الكيفي
الذي عرفه الدرس السوسيولوجي، لكنه لم ينس التأكيد على ضرورة الاهتمام بمهنة السوسيولوجي
و تدريس السوسيولوجيا كعناصر ضرورية لتحقيق التطور و ضمان الجودة في الأداء و التدبير.
أمام حرارة الاحتفاء لم يقو جسوس على مواصلة الحديث،
لكنه استعاد حيويته بصالة الفندق، حيث حل ضيفا فوق العادة على تطوان، لينطلق محللا،
متسائلا، معلما و محرضا لشباب جمعية أصدقاء السوسيولوجيا، خلال لقاء حميمي جمعهم به
عقب انتهاء فعاليات الحفل التكريمي، ألم يقل إدريس بنسعيد بأن يستعيد عافيته و حيويته
كلما التقى المنتمين إلى مدرسة القلق الفكري.
لهذا يبقى المرحوم محمد جسوس العالم المربي الذي
ينغرس عميقا في أفئدة طلابه و زملائه، و الذي لا يمكن بالمرة تحقيبالسوسيولوجيا المغربية
و لا حتى السياسة المغربية بمفهومها النبيل، بدون الرجوع إليه مفكرا و مناضلا فوق العادة،
فهنيئا لنا جميعا بهذا الـ"جسوس" الذي سرقته السياسة من السوسيولوجيا، و
دون أن تجعله يتنكر لصوت العلم الغائر فيه جدا. ففيه يجتمع العالم و السياسي، و الغلبة
دوما لسوسيولوجيا النقد و المساءلة.
في الختام لا بأس أن نعيد طرح سؤال بطعم الفجيعة
و الألم، أطلقه الصديق العزيز عبداللطيف كيداي في متن رثاء الفقيد، ماذا أخذنا عن سي
محمد جسوس؟ يقصد زملاء المهنة تحديدا، يجيب بوضوح قاس: "الكثير من الحقد و القليل
من المعرفة هو ما يسود الجماعة العلمية"، فمتى نكون جديرين بحمل صفة خريجي مدرسة
العلم و الأخلاق الجسوسية؟؟
0 التعليقات: