أن تكتب قصيدة، فهذا معناه : أن تكتب قصيدتك.
بوجمعة العـوفي شاعر وناقد فني مغربي
ـــ 1 ـــ
الشعر في حد ذاته احتفاء دائم بالحياة. وقد لا يحتاج بالضرورة إلى يوم عالمي أو مناسبة بعينها كي يسمع صوته وينتصر للحياة. مع ذلك تظل المناسبات الشعرية أزمنة ومساحات أساسية لجعل هذا الشعر وصوته ينبض بالحياة. إذ في القراءات المباشرة أمام جمهور عاشق للشعر، تولد القصيدة من جديد وتتغذى من مختلف أشكال التجاوب وانفعالات هذا الجمهور وحالاته الشعورية. خصوصا إذا كانت القصيدة ” منبرية ” وتعتمد على رافعة الإيقاع.
إن أهم شيء في المناسبات الشعرية، هو ارتطام جسد الشاعر وصوته بجسد اللحظة الشعرية ( لحظة القراءة ) التي يؤثثها ويعمقها حضور فيزيقي لمتلق يتلقف القصيدة بحواس وأبعاد متعددة. حيث يختبر الشاعر الملقي نفسه كينونته الشعرية وتجربته داخل زمن الاستماع والمشاهدة وأشكال التواصل الأخرى، التي تعج بها لحظة إعادة إنتاج القصيدة ودلالاتها في الصوت، باعتباره حاملا شخصيا لأثر الشاعر وذاته وبصمته. إذ هناك العديد من الشعراء الذين وسموا قصائدهم ــ ضمن لحظات الإلقاء الشعري ــ بمكملات إلقائية وجسدية وصوتية هائلة، تجعل القصيدة ــ في دفقها الصوتي ــ أقرب إلى المتلقي من حبل الوريد، بل تتأثر هذه القصيدة نفسها وتتعمق أكثر بكل أشكال الحضور المادي والفيزيقي للشاعر في زمن القراءة والإلقاء. ثمة الكثير من الأمثلة الدالة على ذلك : أهمها ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ جلسات الإلقاء الشعري وأشكالها الباذخة عند شاعر من عيار ” محمود درويش “. إذ تتقوى القصيدة وتصبح أكثر وسامة وجمالا بكل الحركات والنظرات والابتسامات وحتى أشكال السهو الخاصة التي ينتجها ” درويش ” ( الشاعر الوسيم والأنيق ) أثناء قراءته.
أما الاحتفاء بالشعر من خلال يوم عالمي، فهي فكرة مبدعة وهائلة أيضا. تعني بالنسبة لي : وضع هذا الشعر في مصاف القضايا والخطابات والإنتاجات الرمزية الهامة والكبرى للبشرية على وجه الإطلاق. إذ يستحق هذا الإنتاج انتباه العالم، ما دام العالم بوسعه أن يحيا ويصبح أجمل في المجاز والاستعارات الكبرى كذلك.
ـــ 2 ـــ
القصيدة كان لها دائما هذا الارتباط العضوي والرمزي والوثيق بالربيع كاستعارة وكحيز طبيعي، باعتباره زمنا تتفتق وتخضر فيه عناصر الحياة كلها ( بما في ذلك حواس ورغبات الكائن البشري ). أما علاقة القصيدة ( أي قصيدة ) بسياق ” الربيع العربي ” : فالمعروف أن العديد من الدول العربية تعيش منذ أكثر من سنة على ” صفيح ساخن ” أو ربيعا ساخنا واستثنائيا بامتياز. تطبعه الكثير من الاحتجاجات العارمة والمصادمات والمواجهات والقليل من محاولات الانتقال إلى ” الخيار الديمقراطي “. وما يمكن أن يفعله ــ على الأقل ــ شاعر أو شخص مهووس مثلي بجمالية الاحتجاج العربي وبشعريته، هو محاولة مضاعفة هذه الجمالية ونقل بعض مدلولاتها وأشكال تعبيرها ــ على مستوى القصيدة ــ إلى مستويات أخرى من التدليل، أو ــ بالأحرى ــ ترحيل هذه التعبيرات وأدواتها الممكنة إلى مناطق ووسائل أخرى ( الصرخة على سبيل المثال ).
فحين ترفع ــ مثلا ــ قصيدة عربية عقيرتها بالصراخ في وجه هذا ” الخيار الديمقراطي العربي ” المتعذر والمطروح أمامها في هذه المرحلة، فهي تشبه ــ بشكل أو بآخر ــ تلك اللوحة الشهيرة : “ الصرخة ” للفنان النرويجي ” إدوارد مونش ” التي رسمها سنة 1893، والتي أراد أن يعبر من خلالها عن ” كرب وضيق ذلك الإنسان قبل أكثر من مئة عام ” في مواجهة وضع كارثي يتسم بـ ” لا عدالة ” المرحلة على عتبة قرن جديد ينذر بالرعب والبؤس وكل أشكل التهميش الاقتصادي والاجتماعي.
وحتى إن كان الكثير من الناس ما زالوا مقتنعين بأن صرخة الفنان ” مونش ” في لوحته ” هاتهما تزال تسمع حتى هذه اللحظة في أرجاء المعمورة، وأنها تعلو، وستظل تعلو في وجه كل من يغتصب الزمان والمكان والحق البشري “، فإن الوضع العربي الراهن ــ ومن دون استثناءات ــ سيظل مجسدا في هذه الصرخة من دون شك.
على القصيدة العربية ألا تتعالى على هاته ” الصرخة “، وتجسد مفهوم وسؤال الأفق المشتهى ربما فقط من خلال كلمات بسيطة ودالة من قبيل : ” ماذا بعد ؟ “، ” ما العمل ؟ “، ” وما الذي سيحمله الغد ؟ “. كلمات بسيطة بأحلام كبيرة، طالما راودت الشعراء والشعوب العربية اليائسة والمحبطة والمقهورة والفقيرة .. فهل يا ترى سيمنح ” الربيع العربي ” معنى لهذا الغد بتسمياته البسيطة، أم ستظل الأماني فقط حبيسة حناجر الشعراء والفنانين والمحتجين من المحيط إلى الخليج ؟ ذلك حتما سيظل رهينا أيضا بما يمكن أن تمنحه هذه الشعوب نفسها من قوة وفعل وتحقق لشعار هذا الربيع : ” الشعب يريد .. ”
ــ 3 ــ
لقد كانت للشعر دائما هاته القدرة الهائلة والخلاقة على ترميم الكثير من الأعطاب وأشكال الخراب البلهاء التي تحدثها السياسة في المجتمعات بشكل أساس ( باعتبارالسياسة كانت ــ في الغالب ــ ” فنا لتخريب الكرة الأرضية بامتياز ” ) على حد تعبير روائية وكاتبة فرنسية شابة منذ سنوات. وأقل ما يمكن أن يفعله الشعر داخل احتفال أو يوم عالمي، هو تلطيف العلاقات بين البشر وأنسنتها، والنأي بها عن كل أشكال الاستهلاك والتداول المادي والجشع داخل سلم القيم واليومي ومجالات الحياة. إن المهمة هي تقريب الشعراء من بعضهم، وتوحيد صوتهم المجيد ( في تعدده ) وصرختهم في وجه هذا الخراب.
ـــ 4 ـــ
الشعر يظل في روحه ووهجه وماهيته هو الشعر في كل الأزمنة والأمكنة. مهما كانت الحواملLes supports والوسائط التي تقوم بحمله وتوصيله إلى قارئه وعاشقه والمستمع إليه. مع ذلك، أصبح الإنترنت وتكنولوجيا وفضاءات ووسائط التواصل الافتراضي والرقمي ضرورية للترويج لهذا الشعر وتوسيع دائرة تلقيه بشكل عام. ولها الكثير من الفوائد، والفضائل، والانعكاسات الإيجابية على علاقات الشاعر ووضعياته التواصلية. لكونها وسائل وتقنيات حديثة، ساهمت بشكل كبير في تطوير حياة الإنسان كذلك. وحققت ــ بالتالي ــ طفرة أو قفزة هائلة ونوعية في مسار تطور فكره، وإنتاجه وأشكال إدراكه للعالم والأشياء، ومن ثم، أشكال تعبيره وتواصله الكوني كذلك. إذ ” كلما تطور الفكر البشري، وتطورت آليات تفكيره، تغيرت أشكال تعبيره، ومن ثم، تغيرت إدراكاته للأشياء والحياة والعالم. وهو مبدأ يستقيم مع التطور التاريخي المنطقي للمعرفة في علاقتها بالتطور التاريخي للحضارات “. ( 1 )
تلك واحدة من صيرورات التاريخ وحتميته من دون شك. هي الصيروات التي تجعل جميع هذه الوسائل والتقنيات الرقمية والوسائطية، تعمل على انتقال أشكال التعبير الإنساني ( بما فيها الشعر ) من مستويات تواصلية إلى أخرى : أكثر خصوبة، وسهولة، ونجاعة، وفوق ذلك معززة بالكثير من المعطيات، التي كان الإنسان ــ إلى وقت قريب نسبيا ــ يفتقدها، بل عاجزا عن توفيرها في أشكال تواصله التقليدية. وبذلك تعززت الوضعيات والعمليات التواصلية للإنسان بإمكانات نقل وتبادل المعلومات والمعطيات بأسهل وأسرع طريقة، ثم بخصائص البصري وبعنصر الصورة وحضورها القوي ووظائفها المتزايدة، والمتعاظمة في جميع مناحي حياته العملية. مع هذه الوسائل الجديدة أصبح الشعر قارة جديدة كذلك.
ـــ 5 ـــ
أيها الشاعر : إن الانتساب إلى غيضة الشعر وتربته، قد لا تحدده بالضرورة أن تكون الشجرة التي أنبتتها قصيدتك الشخصية، بنفس اللون والمقاس والرائحة التي للأشجار الموجود من قبل، أو حتى الأشجار الأمهات. بل تحدده أيضا هذه الامتدادات والتلاقحات وتطورات النوع نفسه التي طرأت على خارطة الشعر وتربته، وبالتالي مفهومه الذي ينبغي أن يتغير ويتسع أيضا لهذه الألوان والأشكال والجغرافيات الشعرية، خارج الأنماط والمقاسات. والشاعر ـ هنا ـ لا يختار أصابعه ويده التي يضيء بها العالم أو يطفئه، بل هي التي تومئ للشاعر بأن يكون، تمنحه مجده أو هاويته.
ليس هذا تشهيقا لظلال الشعراء أو تبريرا لقانون الشعر بغير الشعر، بل تأشيرا لما أصبحت تمور به الكتابة / القصيدة من ” يقظات ” منذ أن قررت القصيدة تحولها وانفتاحها ــ ربما ــ على اللاجنس واللاشكل واللانهائي. ذلك أن الأنواع نفسها لم تعد قانعة كذلك بالجزر المتباعدة ولا بتلك العزلات التي تغري بـ ” الداخل الأبدي ” أو بـ ” بالخارج الأبدي “. أن تكتب قصيدة، فهذا معناه : أن تكتب قصيدتك.
***
قرب الغيضة الأم
تنمو أشجار بلا رائحة ولا لون ..
ليس لها شكل جاهز
تبعثره الريح إذا ما هبت من الخلف ..
لكنها بالقليل من الإزاحة :
تصلح لصياغة غابة كاملة !( 2 )
إشــارات :
1 ــ د. زهور كرام : ” الأدب الرقمي ـ أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية ” ـ دار ” رؤية للنشر والتوزيع ” ـ القاهرة 2009 ـ ص 21.
2 ــ مقطع من قصيدة لنا بعنوان : ( قصائد من أجل سوزان برنار ) من ديوان ” بياضات شـيقة “. منشورات دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ـ دولة الإمارات العربية المتحدة ـ جائزة الشارقة للإبداع العربي في الشعر ـ الدورة الرابعة 2001.
( تأتي هذه الورقة بمثابة أجوبة بوجهة نظر شخصية جدا على أسئلة صاغها الكاتب والقاص والمترجم المبدع ” عبده حقي ” ضمن ملف أو استبيان خاص بــ :” اليوم العالمي للشعر ” “، والمتضمن لخمسة أسئلة وجهها الكاتب للعديد من الشعراء المغاربة والعرب )
0 التعليقات: