ذ:أحمد عصيد كاتب وباحث في الثقافة الأمازيغية
الأمازيغية قد نجحت في انتزاع الاعتراف الدستوري
وجعلت مطالبها تتحول إلى قرارات سياسية للدولة
س : في رأيكم كيف تقيمون ماتحقق في المغرب من منجزات دستورية وسياسية
وحقوقية للمكون الأمازيغي مقارنة مع وضعه في باقي الدول الأخرى في شمال إفريقيا ؟
ج : يمكن القول إن الأمازيغية في المغرب مقارنة
بالدول الأخرى في شمال إفريقيا قد حققت من خطوات نهضتها ما لم يتحقق بعد في الدول المذكورة،
فوضعية اللغة الرسمية لم تحظ بها الأمازيغية إلا بالمغرب حتى الآن، وهي الضمانة الأقوى
للحماية القانونية وللمأسسة الفعلية، كما أن تجربة تعليم اللغة وإدراجها في المجال
السمعي البصري رغم كل التعثرات والعوائق الموجودة، تتجاوز ما تحقق في بلدان الجوار،
بل يمكن القول إن التجربة المغربية في مجال النهوض بالأمازيغية أصبحت بشكل من الأشكال
إطارا مرجعيا لدول أخرى وخاصة ليبيا التي ما فتئ أطرها بعد الثورة مباشرة يلجئون إلى
المغرب للاستعانة بالخبرة المغربية في وضع الأسس والمرتكزات الضرورية لمأسسة الأمازيغية
في بلدهم.
لكن بالمقابل لا يعني هذا أن وضعية الأمازيغية بالمغرب
هي في حالة جيدة تحقق المراد والقصد وتبلغ الغاية، فعلى الصعيد الدستوري هناك تنصيص
على وضع قانون تنظيمي يحدّد كيفيات تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية ومجالات هذا التفعيل
ومراحله وأولوياته، غير أن الحكومة لم تباشر هذا الموضوع حتى الآن، رغم بروزه القوي
في النقاش العمومي وفي اللقاءات الحزبية والمدنية وحتى في مجلس المستشارين، وعلى الصعيد
الحقوقي ما زالت هناك خروقات ترتكب بنفس ذهنية الميز القديمة، مثلما يحدث في منع التظاهرات
الأمازيغية كمسيرة أكادير والحسيمة، وما يحدث في مكاتب الحالة المدنية من منع لتسجيل
الأسماء الأمازيغية للمواليد، وما يحدث في مجال التعليم من عرقلة لتعميم تدريس اللغة
وتوفير الموارد البشرية المطلوبة، وما يجري في القنوات التلفزية من ميز صارخن وما يحدث
كذلك من منع لرموز الثقافة الأمازيغية في الفضاء العمومي من طرف السلطات المحلية في
بعض المناطق كمصادرة حرف تيفيناغ والعلم الأمازيغي إلخ..ومن جهة أخرى ما زال خطاب بعض
المسؤولين يعتمد عبارات متقادمة مثل “المغرب العربي” و”الوطن العربي” وغير ذلك من التسميات
التي يطبعها الاختزال والإقصاءن والتي تتنافى مع ما ينصّ عليه الدستور المغربي الحالي.
يمكن القول إجمالا إذن إن الأمازيغية قد نجحت في
انتزاع الاعتراف الدستوري وجعلت مطالبها تتحول إلى قرارات سياسية للدولة لم يعد أحد
يجرؤ على إنكارها من التنظيمات السياسية والمدنية، لكنها لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب
في مأسستها واحترام قرارات الدولة في ذلك.
س : ماهي في رأيك الآليات القمينة برد الإعتبار
للتاريخ والحضارة الأمازيغيتين في ظل الحفاظ على وحدة الهوية المغربية في كل أبعادها
الإثنية والثقافية والسوسيولوجية ؟
ج : الآلية الأولى الأقوى والأكثر أهمية بل والتي يمكن اعتبارها مصيرية هي إنجاح التعليم،
إذ بدون ذلك لا يمكن تغيير عقلية المغاربة من الميز إلى المساواة ومن الأحادية إلى
احترام التنوع والاختلاف، ومن الجهل إلى العلم، كما لا يمكن جعل اللغة الأمازيغية لغة
مؤسسات، لأنها بحاجة إلى أطر يتمّ تكوينهم في التعليم، فبعد الاستقلال كان أطر اللغة
العربية الحديثة قلة بالمغرب، ولهذا كانت اللغة الفرنسية هي لغة الإدارة، وبعد استجلاب
مدرسين مشارقة لمدة غير يسيرة تمت “المغربة” بالتدريج وأصبح للغة العربية أطرها الذين
كونتهم الدولة، نفس الشيء بالنسبة للأمازيغية، فالتعليم هو الأساس الذي يمكن بناء عليه
تصحيح التاريخ والتعريف بالحضارة المغربية وبمكانة الأمازيغية فيها. من جانب آخر أعتقد
أنه من غير الممكن نهائيا إنصاف الأمازيغية بدون تصحيح التاريخ لأن الرواية التاريخية
المعتمدة رسميا كانت تستعمل لأغراض إيديولوجية تتعلق في بعضها بالهوية الرسمية للسلطة
وليس للمجتمع المغربي، فالسلطة إن اعتبرت مثلا بأن الأدارسة هم مؤسسو الدولة المغربية
فلأن الهدف هو السكوت عن الدول الأمازيغية قبل وبعد الأدارسة، وربط حاضر “العلويين”
(الأسرة الحاكمة) بماضيهم وهي إيديولوجيا وليست تاريخا فعليا موضوعيا وعلميا. والأمازيغية
تتضرّر من هذا المونتاج السياسي لتاريخ المغرب. وكان من أفدح نتائج هذا المونتاج جهل
المغاربة بماضيهم واحتقارهم لذواتهم وافتخارهم بالأجنبي وتعظيمهم له.
من بين الآليات كذلك إصلاح الإعلام العمومي وجعله
في خدمة الثقافة الوطنية بكل مكوناتها، وإيجاد مكان للأمازيغية بحرفها الأصلي في الفضاء
العمومي وواجهات المؤسسات وعلامات التشوير، واستعمالها في مجال القضاء والمحاكم وفي
مجال الصحة والمستشفيات وفي الإدارة العمومية بتدرّج، وكذا استعمالها في رموز الدولة
مثل الطوابع البريدية والأوراق البنكية والنقود والبطاقة الوطنية وجواز السفر إلخ..
إن هذا الاستعمال المكثف للأمازيغية في الفضاء العام
هو الذي سيمكنها من الخروج بصفة نهائية من وضعية الدونية والميز إلى وضعية أداء وظائف
لغة الدولة. كما سيمكن من إعادة الاعتبار للتاريخ المنسي وللحضارة المغربية بكل أبعادها ومكوناتها بشكل متوازن.
س : كيف تنظرإلى مستقبل المكون الأمازيغي على مستوى
دول شمال إفريقيا ألا تهدد بعض دعوات الإنفصال التي تجهر بها بعض هيآت المجتمع المدني
الأمازيغي القاطنة في أوروبا، ألا تهددالإستقرار وتنذر بمزيد من الإنفجارات في هذه
الدول ؟
ج : بالعكس تماما، أعتقد أن الأمازيغية بوصفها ثقافة
تحمل قيم التحرر والمساواة ستلعب دورا محوريا في استقرار هذه البلدان، لأنها ستواجه
الخطر الحقيقي الذي يمثله التطرف الديني الوهابي، وأنتم ترون كيف أصبحت رقعة التطرف
السلفي تتسع أكثر فأكثر، وتمثل تهديدا متزايدا لمصالح الدول المغاربية . كما تلاحظون
بأن الخطاب الأمازيغي يتصدّر الصراع ضد الإسلام السياسي بالمغرب والجزائر وليبيا ومالي،
فالأمازيغية بالنسبة لنا صمام امان ضد النزعات الشرقانية اللاعقلانية، وخاصة منها عقيدة
العربية السعودية المدمّرة وعقيدة الإخوان بمصر.
أما عن النزعة الانفصالية ففي المغرب على وجه الخصوص
لا يمكن للأمازيغية أن تكون هوية انفصال لأن المقصود بالأمازيغية كل التراب الوطني
وكل المغاربة، فليس في المغرب قطعة أرض خاصة بالأمازيغ وأخرى خاصة بغيرهم، ولهذا فالخطاب
الأمازيغي خطاب وطني يرفض التمركز المفرط للدولة،
ويرفض الميز والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي واللغوي، ويدعو إلى جهوية موسعة
حقيقية، وربما قد يدعو أيضا إلى الحكم الذاتي للمناطق أو إلى الدولة الفدرالية، ولكنه
ليس خطابا انفصاليا يهدف إلى تقسيم البلد، لأن الأمازيغ لا يمكن أن ينفصلوا عن ذواتهم
وعن بعضهم البعض.
أما وضعية الجالية في أوروبا فهي وضعية مأساوية
تبرّر عنف الخطاب المعارض ضدّ الدولة المغربية في الخارج، وسببها انعدام الديمقراطية
الداخلية مما يجعل المغاربة الذين يعيشون في ديمقراطيات رفيعة في الخارج ينظرون إلى
بلدهم بنوع من الغضب والحسرة، وينقمون على النظام “المخزني” بشكل كبير، ولا يعترفون
بشرعيته لأنهم ينبذون أساليبه العتيقة في الحكم الفردي واستعباد الناس واستغلال خيرات
البلد خارج أي احترام للقانون. كما يرفضون طريقته في التعامل معهم كمورد للعملة لا
غير، دون احترام إنسانيتهم ومواطنتهم وحقوقهم، وهم الذين تعودوا على نوع من التعامل
في الدول الغربية يحترم قواعد المواطنة. وقد ظهر هذا الغضب والنقمة في تعامل الجالية
المغربية مع “مجلس الجالية” الذي نبذته في عمومها ورفضته. ونظرا لقساوة الأحداث الرهيبة
التي عرفتها منطقة الريف بشمال المغرب سنة 1958، والتي ظلت جرحا غائرا في النفسيات
والأذهان، وخلقت حاجزا نفسيا بين الإنسان الريفي والنظام المركزي، فقد حملت الجالية
المغربية الريفية على الخصوص هذا الجرح إلى خارج الوطن، ومنهم من وجد ضالته في الإسلام
الوهابي المتشدّد ضدّ الإسلام الرسمي الذي يعتبرونه “مزورا”، ومنهم من حمل فكرا حداثيا
وديمقراطيا وحقوقيا عصريا ضدّ النظام المغربي كذلك، وهذا ما يفسر مواقف المجتمع المدني
المغربي بالخارج، فمغاربة الخارج يعيشون سياقا مختلفا عما نعيشه في داخل المغرب.
س : وضعت ميكروسوفت ويندووز8 تيفيناغ ضمن الخطوط
المعتمدة عالميا مما سيمكن التراث والحضارة والثقافة والأدب الأمازيغي من أدوات المعلوماتية
والرقمية والنشرالإلكتروني على أوسع نطاق شبكي (إنترنت) . ألا يمكن الحديث اليوم عن
بداية انشطار في مكونات الهوية المغربية إلى مكونين مستقلين أحدهما عن الآخر؟؟
ج : هما مكونان مستقلان فعلا ولكنهما يتبادلان الأخذ
والعطاء ولا يمكن أن يتعايشا إلا على هذا الأساس، والاعتقاد بأن جعل الأمازيغية تحت
وصاية العربية يقوي الوحدة هو منظور غير سليم، لأن الامازيغية تحت الوصاية لا يمكن
أن تحيا وأن تستمر أبدا بل سيكون مصيرها هو الانمحاء التدريجي، وهذا سيؤجج الصراعات
ولن يضمن الاستقرار المطلوب. فالمنظور العربي الإسلامي لا تهمه الأمازيغية ولا تدخل
ضمن حساباته بل يريد السيادة الكاملة للعربية وحدها، وهذا منظور متجاوز اليوم، لأننا
انتقلنا من الأحادية إلى الاعتراف بالتنوع،
والتنوع موجود في كل شيء: في العقيدة في اللغة في اللون وحتى في حرف الكتابة، فالحرف
الأمازيغي هو عنصر في فسيفساء التنوع المغربي، والذي لا يقبله لا ينبغي أن يتظاهر بأنه
لا مشكلة له مع الأمازيغية، لأن الحرف لا ينفصل عن اللغة، كما أن الذي يشترط الحرف
العربي للقبول بالأمازيغية يرى في الحقيقة أن آخر فرصة للحفاظ على الأمازيغية تحت وصاية
المنظومة العربية الإسلامية هو مسألة الحرف. وأذكر أنه عندما قررنا في بداية سنة
2003 اختيار حرف تيفيناغ فقد كان ذلك لحسم الخلاف بين الحركة الأمازيغية التي كانت
تدعو إلى الحرف اللاتيني والقوميين العرب و الإسلاميين الذين كانوا يطالبون بالحرف
العربي، فحرف تيفيناغ لم يكن أبدا موضوع أخذ وردّ، وكان الصراع بين الحرفين الآخرين،
و قد لقي تيفيناغ موافقة الأغلبية الساحقة من القيادات الحزبية( 31 حزب من أصل 33)،
ولم يتحفظ إلا حزبا الاستقلال والعدالة والتنمية، وهما أقلية صغيرة، مما جعل الملك
يوافق على اختيار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ويبعث بتهنئة إلى المجلس الإداري
الذي كنت عضوا فيه آنذاك.
علينا إذن أن نغير مفهومنا للوحدة الوطنية، لأننا
انتقلنا من مفهوم الوحدة عبر التنميط والتأحيد إلى الوحدة عبر التنوع ومن خلاله، وعلينا
أن نحافظ على نظرة منسجمة إلى هذا الموضوع لأنه لا يمكن تكريس التناقضات.
من جانب آخر لقد قامت وزارة التربية الوطنية بإجراء
دراسة حول تلقي حرف تيفيناغ من طرف الأطفال، فتبيّن بالملموس أنه أسهل حرف بالنسبة
للصغار بسبب اليُسر في استعماله، لأنه يتوفر على الصوائت والصوامت كما أن حروفه لا
تتغير مهما كان موقعها من الكلمة، عكس الحرف العربي الذي يحتاج إلى الشكل التام لضمان
قراءة صحيحة كما تتغير العديد من حروفه بحسب موقعها من الكلمة. وبالنسبة للكبار فمدة
تعلم حروف تيفيناغ لا تتعدى ساعة ونصف .
وبحصول حرف تيفيناغ على الاعتراف الدولي عام
2004 من طرف المعهد الدولي لمعيرة الأبجديات iso unicode ، واندراجه في ويندووز 8، يكون قد خطا خطوات كبيرة
في طريق تحديثه ليلعب الوظائف المنتظرة منه، كما عرف خروجه مؤخرا إلى واجهات العديد
من المؤسسات العمومية.
س : على المستوى الإعلامي الورقي والسمعي البصري
كيف تقيم التجربة الحالية وماهي مقترحاتك للنهوض إعلاميا بالمكون الأمازيغي ؟
ج : الصحافة الأمازيغية المكتوبة في وضعية صعبة
بسبب انعدام الإمكانيات، فهي محرومة من الإشهار ومن الدعم المطلوب، مما يصعب معه التوفر
على صحافة احترافية قادرة على المنافسة والاستمرار، وهذا ما يفسر اختفاء العديد من
المنابر الإعلامية الورقية. أما الإعلام المرئي و المسموع فالإذاعة الأمازيغية خطت
بعض خطوات بزيادة ساعات البث في أفق البث 24 ساعة، وتحسنت برامجها كثيرا، واستقطبت
طاقات شابة، وتراجعت نوعا ما الرقابة البوليسية التي كانت مسلطة عليها في العقود المنصرمة،
لكنها ما زالت لا تتوفر على قوة البث الذي يمكن أن يصل إلى مختلف المناطق. أما التلفزيون
فما زال مجالا لتمظهر العنصرية الثقافية في أجلى مظاهرها، فباستثناء القناة الأمازيغية
التي لا تتوفر على الاعتمادات الكافية لبلوغ إنتاج في المستوى الذي تتوق إليه، فغن
القنوات الاخرى التي سبق لها أن وقعت على دفاتر تحملات تتعهد فيها بإنتاج العديد من
البرامج بالأمازيغية قد تراجعت عن الكثير من تلك البرامج التي انطلقت في نونبر
2006، بل إنها دفعت ببعض البرامج التي كانت تبث في الساعة الثانية بعد الزوال إلى التاسعة
صباحا والثامنة صباحا بل والسادسة في بعض الأحيان، وهو ما يعكس نظرة الميز والتحقير
القديمة عند المشرفين على التلفزيون.
في دفاتر التحملات الجديدة التي أعدها وزير الاتصال
الحالي يوجد تقدم ملموس حيث أصبحت للأمازيعية فترة بث أكبر، لكن مع بعض الغموض والالتباس
الذي يظل قائما، والذي من المنتظر أن يُستغل للتراجع عن الالتزامات أو تحريفها، عبر
أنواع من التحايل، والسلوكات المزاجية، خاصة وأن هذه الدفاتر لا تلزم القنوات التلفزية
بإعطاء الامازيغية حقها من وقت الذروة الذي تحتفظ به للأفلام المصرية والمكسيكية والهندية.
0 التعليقات: