الفضاء كسب الرهان، والتحدي في الاحتفاظ بالجودة محمود الريماوي*
كاتب اردني مديرالموقع الثقافي قاب قوسين
تشهد شبكات التواصل الاجتماعي والمنابر الثقافية الالكترونية اقبالا متزايدا من القارئين (المتصفحين)، ومن المواهب الجديدة لـ “النشر” فيها. وثمة نسبة متزايدة باطراد تشيح بأبصارها عن الصحف الورقية وما تشتمل عليه من ملاحق ثقافية، هذا ما يمكن استشفافه من درجة الإقبال الكثيف على فيسبوك وتويتر أولا ثم على المنابر الثقافية. هذا واقع غير قابل للنكران، ويتعلق بالأجيال الشابة ، كما بمن يباشرون الكتابة حديثا بصرف النظر عن العمر والجيل، ويتهيبون الى درجة كبيرة التواصل مع المطبوعات الثقافية الورقية، تهيبا يحملهم على الازورار عن تلك المطبوعات، الا من رحم ربي من اصحاب المواهب الذين ينشدون تقييماً أولياً لنتاجهم عبر فرصة النشر ، أو من خلال ادراك مغزى أن لا يحالفهم الحظ في النشر.
لا يود الكاتب هنا الاندفاع في تبيان اهمية الشبكة العنكبوتية وحيويتها ، وملاقاتها لمزاج السرعة والفورية لدى الأجيال الشابة، إذ المسألة الأهم تقع في “مكان آخر”، يتصل بتغير جهاز المفاهيم لدى الأجيال المبدعة الشابة. فبينما كان اديب القرن العشرين يلتمس اعترافا وتقييما من لدن النقاد ومن هم في حكمهم ، فإن أدباء اليوم يسعون الى الجماهيرية عبر انتزاع اعجاب المتصفحين ايا كانوا ممن يتذوقون الابداع، أو ممن لا يقرأون النص كاملاً مجرد قراءة ،ويتطوعون مع ذلك بابداء الاعجاب او تدوين تعليق عفوي ( عشوائي) وبخصة اذا كان النص لكاتبة .
لا نقد ولا نقاد في شبكات التواصل. اما في المنابر الثقافية الالكترونية فإن مهنة التحرير شبه غائبة، والمحرر يقوم بدور الوسيط لنقل المادة من الايميل الى الموقع، دون تجشم اي عناء آخر كتصويب الأخطاء اللغوية وحتى الإملائية..
الموهوب الجديد متروك لذات نفسه، فإما ان يصقل موهيته بنازع شخصي، أو يبقى عند نقطة البدايات، وفي الحالتين فإن فرصة “النشر” متاحة، بل إن احدا ليس بوسعه الحجب او “العرقلة” كما كان ديدن محرري ايام زمان في صحافة الحبر والورق.
وقد نشأت عن ذلك حالة من السيولة التامة، تتعدى ما قد يوصف بـ “فوضى المعايير واضطراب الأداء”. فالفضاء الالكتروني يتسع للجميع، ومن يصادف بعض العراقيل والمفاجآت غير السارة هنا وهناك، فإنه يلجأ لإنشاء مدونة او موقع قائم بذاته مستعيناً ببعض الأصدقاء الخُلص.
اما الملاحق الثقافية فإن القائمين عليها إذ يستشعرون هجرة واسعة ومطردة نحو الفضاء من طرف مبدعين وناشطين ثقافيين، فإنهم يواجهون في الوقت ذاته مشكلات مهنية لم تخطر بالبال من قبيل التقدم بمواد منشورة، وبتكرار نشر مواد ملاحقهم، ثم نسبة هذا النص أو ذاك لموقع أو سواه. شيوخ الأدب والكتابة يربأون بأنفسهم عن هذا السلوك، لكن كيف تتجدد الملاحقبدون مساهمات أجيال شابة وهؤلاء من عابري الفضاء الذين يؤمنون بتعددية النشر هنا وهناك وهنالك مرةً وعشراً وعشرين مرة، وممن يميلون لقراءة نصوص ومقالات قصيرة ( تعليقات) دون سواها، حتى يندر وجود مواهب ترتضي بشقاء الإبداع المقترن بتوسيع الأفق المعرفي.
الأجيال الشابة تشكو ان لا أحد يلتفت الى ما يبدعونه، وأنهم يسمعون بالنقاد ولا يصادفونهم ( لا يتفاعلون مع ما ينشرونه). والتفاعل هو وحدة قياس معتمدة وقارّة، بديلا عن القراءة والتأويل واستنباط الخطاب.
لا جواب على هذه المشكلات الناشئة سوى بالقناعة أن الكتاب الورقي متشبث بعرشه، محتفظا بسحره، وأن مآل الإبداع الأدبي ومناطه أن تضمّه دفتا كتاب. تتوفر الآن الكتب الكترونياً، وأغلبها ورقية في الأصل.
يصعب التنبؤ بالمستقبل وخاصة مع ظهور أجيال جديدة تعتمد على النشر الالكتروني كمصدر وحيد لثقافتها وزادها المعرفي.
وللمرء أن يحلم بمبادرة ومنظمات مؤسسات ثقافية غير رسمية لقبول الرهان على الفضاء، والارتقاء بالمنابر الثقافية الالكترونية الفردية ومهننتها، والمهمة الأخيرة دونها خرق القتاد فالمحرر قد يجد ويجتهد لتجويد منتجه، ليجد في النهاية أن القراء يتناقصون كلما ارتفع مستوى المنبر، علاوة على أنه مدعو لأن يتحمل وحده هذا العناء، مضافاً اليه تأدية الكلفة المالية للموقع.
اما السؤال المتعلق حصرا بالملاحق الثقافية الورقية فلئن تراجع حضورها، إلا ان دورها ما زال قائما على صعيد النقود الأدبية وعروض الكتب والحوارات الموسعة أولاً، مما يندر وجوده في شبكات التواصل، وكل أديب/ة شاب/ة ، سيجد في هذه الملاحق فرصته للارتقاء بوعيه. وكذلك الحال في منابر ثقافية الكترونية يتوازى أداؤها مع ما ينشر في تلك الملاحق.
ومع استمرار دور الملاحق الثقافية الورقية، فإن الوصول اليها يتم عبر الانترنت لا بالبحث في الأكشاك عن الصحيفة، مما يضع القائمين على الصحف أمام تحدٍ جوهري فما دام أغلبية قرائهم يصلون الى صحفهم عبر الانترنت، ففيم الحاجة الى مزيد من الإصدار الورقي بكلفته الباهظة؟.
* قاص وروائي من الأردن، رئيس تحرير “قاب قوسين” الثقافية.
0 التعليقات: