ذ: عبد السلام خلفي باحث بمركزالديداكتيك والبرامج
التربوية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية-الرباط
النظام المغربي كان يتميز بنوع من الليونة في التعامل
مع هذه القضية.
س : في رأيك كيف تقيم ما تحقق في
المغرب من منجزات دستورية وسياسية وحقوقية للمكون الأمازيغي مقارنة مع وضعه في باقي
الدول العربية الأمازيغية الأخرى ؟
ج : علينا أن نقر، في البداية، أن المغرب قطع أشواطاً
مهمة في طريق الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية وثقافتها؛ إذ منذ الاستقلال إلى حدود
2001 كنا نعيش على شعارات العروبة والانتماء العربي الإسلامي، وكنا نتجنب الإعلان عن
انتمائنا الأمازيغي الذي بدا لنا لفترة طويلة متخلفاً ويحيل على ماض غير مشرف. وأما
الآن فلدينا، على الأقل، الجرأة للقول أننا لسنا كما أُريدَ لنا أن نكون وأننا نحن
فقط من سيحدد من نكون وماذا سنكون.
هذا على مستوى المبدأ، أو على مستوى تكسير الحاجز
النفسي الذي ظل يقف عالياً أمام التعرف على ذواتنا والاعتراف بها؛ وأما على مستوى ما
تحقق في الميدان، فإنه لا يمكن في نظرنا أن نقيم هذه الأشواط التي قطعناها في علاقتها
بمنجزات الدول المغاربية إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الخسارات التي تكبدتها مكوناتنا
اللسانية والثقافية والحضارية. إذ من المعلوم أن اللغة الأمازيغية وثقافتها قد عرفت
تراجعاً كبيراً على شتى المستويات نتيجة لقرارات سياسية ونتيجة أيضاً لتحولات مجتمعية
عميقة مست القيم والإنسان. ولن نكون مبالغين إذا قلنا أن الخسارة كانت أكبر خلال العقود
الخمسة الأخيرة، نظراً لما اتسمت به الدول المغاربية القومية من عنف رمزي أدى كما أبرزت
ذلك اليونسكو (2008) إلى موت العديد من المتغيرات اللسانية الأمازيغية والكثير من الأشكال
الثقافية والفنية والجمالية.
وإذا كنا نسجل – مع ذلك- التفاوتات في حجم الخسارة
من بلد إلى آخر نتيجة لاختلاف المرجعيات السياسية والإيديولوجية بهذه الدول فإن الأكيد
هو أن النخب الحاكمة كانت متفقة على تسريع وتيرة التعريب بهدف بناء نموذج هوياتي مغاربي
يكون انعكاساً للنموذج الهوياتي العربي بالشرق. هذا ما ظلت وما زالت ترشح به- مثلاً-
المنظومات التعليمية، وهذا ما اعتادت أن تقنبل به وسائل الإعلام رؤوس المغاربيين لأكثر
من خمسين عاماً. صحيح أن مستويات التعنيف الإيديولوجي كانت أقوى في كل من ليبيا والجزائر
لكونهما كانتا تهدفان إلى بناء عروبة إقصائية مؤسسة على مبدأ الانصهار العرقي في نموذج
سياسي لأمة قومية ترفض الاختلاف بشكل مطلق؛ وصحيح أيضاً أن هذه المستويات كانت أخف
في كل من تونس والمغرب، لكون الأولى حاولت أن تؤسس لعروبة تونسية خاصة تمتد جذورها
إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة (ما سُميَ بالتونسة)، ولكون الثانية اتجهت إلى تبني عروبة
ثقافية مع رفضها التام لكل الخيارات السياسية ذات النزوع العروبي الانقلابي المتمثلة
في النماذج القومية البعثية والناصرية… إلا أنه بالرغم من كل هذه التفاوتات يلاحظ أنها
كانت تتجه جميعها إلى تهميش الأمازيغية، بل وإلى استعمال بعض هذه النخب لوسائل القهر
السلطوي من اغتيالات واعتقالات وسجن ونفي لإسكات الأصوات المعارضة.
وبطبيعة الحال فإنه أمام تنامي الوعي الهوياتي المغاربي،
ونظراً إلى الدينامية التي عبرت عنها الحركات الأمازيغية في شمال إفريقيا وفي العالم
منذ ستينيات القرن الماضي، بل وأمام الانتفاضات الشعبية المتتالية التي شهدتها العديد
من المناطق الأمازيغية اقتنعت بعض هذه الدول بضرورة التعامل مع الوضعية بشكل آخر، فكان
لذلك أن اعترفت الجزائر بالأمازيغية لغة وطنية في دستورها الأخير، وأعلنت عن تأسيس
ما سُمي بالهيئة السامية للأمازيغية، ثم إنشاء قناة أمازيغية مختلطة رداً على القناة
الأمازيغية التي كانت تُبث من باريس؛ كما خطب الحسن الثاني سنة 1995 خطابه الذي يعترف
فيه بضرورة تدريس الأمازيغية، وتلا ذلك سنة 2001 خطاب الملك محمد السادس بأجدير وإنشاء
المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإدراج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية ثم
إنشاء قناة تمازيغت وأخيراً الاعتراف الدستوري بالأمازيغية بوصفها “لغة رسمية أيضاً”.
وأما في ليبيا، فإن القذافي الذي كان يتابع القضية عن كثب، والذي كان يقلقه المسار
الذي أصبحت تتخذه المسألة بعد أن اتخذت لها أبعاداً دولية، فإنه استقبل سنة 2008 رئيس
الكونكريس العالمي الأمازيغي ونائبه، ليتعرّف على “ما تحت راسْهم” معطياً الانطباع،
في إطار سياسته المتوجهة آنذاك نحو بناء الولايات الإفريقية المتحدة، أنه بدأ يهتم
بالأفريقانية وبالثقافة الأمازيغية.
إلا أنه مع مرور الوقت بدأ يتضح أن الكثير من هذه
المبادرات كانت محكومة بأجندات سياسية هدفها الجوهري هو إما توقيف المد الحركي الأمازيغي
أو الالتفاف على القضية كي لا تتحول إلى مطالب
سياسية أخرى، والتي لا يمكن لهم الاستجابة لها إلا بتفكيك بنيات الدولة الإيديولوجية
القائمة على مفاهيم الرأي الواحد والفكر الواحد والمعتقد الواحد والانتماء الواحد إلخ.
ومن هنا سيشرع القذافي في توزيع صكوك التخوين وفي مباشرته سياسة التأثير على الأنظمة
المغاربية كي تتراجع عن اعترافها بالأمازيغية، بل والضغط عليها كما فعل مع المغرب من
أجل طرد المناضلين الأمازيغ الليبيين؛ وفي سنة 2010 سنراه يُقدم على إيقاف باحثين مغربيين
مختصين في التاريخ الأمازيغي القديم وينتميان إلى مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية،
كانا في مهمة علمية بالديار الليبية؛ كما سيعتقل معهم، في نفس الوقت، باحثين ونشطاء
آمازيغيين ليبيين آخرين تُهمتهم الوحيدة هي مطالبتهم الاعتراف بهويتهم الأمازيغية.
ثم ليصدر بعده بياناً استخباراتياً يؤكد فيه أن كل هؤلاء الباحثين لم يكونوا سوى رجال
الموساد الذين يعملون على تفكيك الوحدة الليبية والتونسية والجزائرية. وهكذا فإن القدافي
لم يتوقف فقط عند قمع الأمازيغ الليبيين داخل حدود بلاده الوطنية بل إنه سيتجاوز ذلك
إلى الدول المجاورة، مع عمله، في نفس الوقت، على تصدير “أفكاره الأكاديمية” عن عروبة
الجنس المغاربي التي كان يبشر بها علي فهمي خشيم في كتبه ومقالاته.
وعلى العموم فإن ثورة الشعب الليبي ضد هذا الدكتاتور
القومي، والمساهمة الفعالة والحاسمة للأمازيغ فيها، سيضع حداً للكثير من استيهاماته
العروبية، مما سيؤدي إلى انبثاق حركة أمازيغية ليبية ظلت مقموعة لأكثر من 40 سنة، كان
من تجلياتها ترؤس أحد أبناء ليبيا للكونكريس العالمي الأمازيغي، وإدراج اللغة الأمازيغية
في المنظومة التربوية بالمناطق الأمازيغية، ثم البدء في إطلاق العديد من القنوات والإذاعات
الأمازيغية. صحيح أن ذلك لا يتم إلا بشكل قطاعي وجهوي واستناداً إلى مبادرات خاصة للأشخاص
ولبعض المجالس ومصالح الدولة أو لبعض الجمعيات الثقافية الأمازيغية أو للمقاومين، وليس
على الصعيد الوطني، إلا أن هذا يكشف مع ذلك عن تحول في المسار الهوياتي الليبي وعن
آفاق جديدة.
ومع ذلك تظل القوى المناوئة لهذا التحول حاضرة،
وتظل المواقف القدافية التي زرعها لسنوات طويلة تعطي ثمارها الشوكية وتؤسس لملامح دولة
جديدة مؤسسة هذه المرة على إيديولوجية دينية ترفض التعدد وتتجه نحو الاستبداد. كما
تظل كل المكتسبات المحصل عليها لحد الآن هشة من حيث كونها غير محصنة بالدستور ولا بالقوانين
ولا بالأعراف ما عدا الحصانة التي يعطيها لها أبناؤها بنضالهم اليومي المستميت. والذي
يزيد الطين بلة هو ذلك التدخل الفاضح لبعض دول الشرق البترولية لفرض نموذجها المجتمعي
البدوي.
وإذا كنا نلاحظ تردداً على مستوى الدولة في هذا
الموضوع، فذلك لكون السلطة الجديدة ما تزال لم تسيطر بشكل كامل على كل المؤسسات، مما
يسهل، إلى حد ما، مأمورية النخب الأمازيغية في فرض بعض مطالبها اللغوية والثقافية على
أرض الواقع إما من خلال التدريس أو من خلال الإعلام أو أيضاً من خلال تنظيم أنشطة ثقافية
يشارك فيها نشطاء الحركة الأمازيغية في شمال إفريقيا وفي العالم. غير أن هذا الأمر
بقدر ما يشكل نقطة قوة للحركات الأمازيغية بقدر ما يشكل أيضاً نقطة ضعف كبيرة لها.
فغياب الدولة كلياً أو جزئياً، وغياب توافق وطني مؤسس على دستور حداثي وديموقراطي يعترف
بجميع حساسيات المجتمع السياسية والفكرية والثقافية واللغوية والدينية إلخ، يعني أيضاً
أن كل المكتسبات، رغم ضآلتها، ليست نهائية، كما أن غياب تيار حداثي قوي ومنفتح داخل
المجتمع السياسي الليبي وحضور تيار ديني بجميع أجنحته وهيمنة الانتماءات القبلية والجهوية
يعني أن ملامح القدافية، في شقها القومي، ما زالت حاضرة بقوة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار
كذلك صعود التيارات الدينية في كل من مصر وتونس والمغرب إلخ فإن هذا يؤكد أن دمقرطة
الشأن الثقافي واللغوي في هذه البلدان ما يزال بعيداً عن التحقق بل ومُهدداً بالتراجع
عنه. وهو ما نلاحظه للأسف في الكثير من التوجهات الكبرى المسطرة لحد الآن، تلك التوجهات
التي جعلت المؤتمر الوطني الأمازيغي الليبي، مثلاً، يخرج يوم 08-02-2013 ببيان ليعبر
فيه عن قلقه، و يؤكد فيه على أن:
“الممارسات العنصرية
البغيضة الإقصائية التي انتهجها الطاغية الديكتاتور القذافي ضد أمازيغ ليبيا ما زالت
مستمرة وبشكل ممنهج ومنظم ومؤسساتي ومقصود وبأن كل من رئيسي الحكومتين الليبيتين المؤقتين
قد سارا وما زالا يسيران على نفس النهج العنصري الإقصائي التمييزي لمعمر القذافي ضد
أمازيغ ليبيا“.
إن السادة الجدد لليبيا، إذن، رغم كل الآمال التي
عقدت على الثورة لم ولا يقدمون أي شيء للأمازيغية؛ لا على مستوى التعليم ولا على مستوى
الإعلام ولا على مستوى استعمال اللغة الأمازيغية في مرافق الدولة بل وحتى على مستوى
التمثيليات السياسية للأمازيغ في أجهزتها. وكل المجهودات التي تجري حالياً هي مجهودات
الفاعلين الأمازيغ والمقاومين الذين فتحوا صدورهم أمام رصاص جنود القذافي من أجل ليبيا
حرة.
وفي تونس ليس هناك أي شيء إيجابي يمكن أن نعترف
بتحققه لصالح اللغة والثقافة الأمازيغية؛ فصعود حزب النهضة الإسلامي إلى السلطة يعطينا
انطباعاً عن بدء مرحلة جديدة من مراحل إنهاء ما تبقى من لغة الأمازيغ وثقافتهم؛ ذلك
لأن الساحة التونسية يتنازعها سياسياً إسلاميون بأطيافهم المتطرفة والحاكمة وليبيراليون
أو يساريون تشربوا القومية العروبية. وأما الأمازيغ فنتيجة لوضعهم السوسيو-اقتصادي
الهش، وللتهميش الذي تعرضوا له، ولكونهم أقلية فإنه لا يُلتفتُ إليهم رغم تأسيس العديد
من الجمعيات الأمازيغية السلمية المطالبة بالاعتراف الرسمي باللغة والثقافة الأمازيغيتين؛
والأدهى من كل هذا أن رجلاً حقوقياً مثل منصف المرزوقي الذي عرف المنفى وناضل من أجل
الديموقراطية وحقوق الإنسان ببلاده، ينفي أن تكون الهوية التونسية هوية أمازيغية، فهو
لا يني يكرر أن تونس دولة عربية وتنتمي إلى الأمة العربية الإسلامية، وأن كل من تكلم
بالدارجة العربية حتى وإن كان أمازيغياً فهو عربي، ولذلك فهو لا يأتي بذكر للأمازيغية
في خطاباته فأحرى في مشاريعه؛ لقد ألقى السيد الرئيس في يوم 6 نوفمبر 2013 خطاباً مؤثراً
أمام البرلمان الأوروبي بستراسبورغ أبكى فيه كل الحاضرين لما تميز به من دفاع عن حقوق
الإنسان والديموقراطية وحرية التعبير، ولكنه لما عرج للحديث عن الثقافة المغاربية وحضارتها
أنكر أن تكون هناك أيضاً حضارة أمازيغية، فلم ينبس في حقها بكلمة واحدة؛ لقد تجاهلها
بشكل مطلق، معتبراً هذه الحضارة عربية إسلامية قصراً؛ فإذا كان هذا هو حال رئيس يُعتبر
ديموقراطياً وحداثياً وقدم الغالي والنفيس من أجلهما، فإننا نعتقد أن القيم التي يحملها
الآخرون لا يمكن في نظرنا إلا أن تعمق مأساة الأمازيغية التي ابتدأت بحلول القومية
بين ظهرانينا، والآن تُطْبِقُ على ما تبقى فيها من أنفاس بحلول التيارات الدينية المتشددة
التي يمثلها السيد الغنوشي. هذا الرمز الإسلامي الذي أعاد الحديث، مرة أخرى، منذ وصوله
إلى تونس عن التعريب وعن تعميم اللغة العربية على الجميع بوصف التونسيين عرباً وعلى
اعتبار أن “المخلوع الأول” (بورقيبة) و”المخلوع الثاني” (بن علي) لم يقوما بالدور المنوط
بهما في التعريب الكامل للشعب التونسي كما جاء في حوار له في إذاعة إكسبريس ف.م والذي
بُث على اليوتوب يوم 28 أكتوبر 2011. والخلاصة أنه ليس في تونس دستور يعترف باللغة
الأمازيغية، وليس هناك قوانين تحمي الثقافة الأمازيغية، وليس هناك مدارس تُدرس الأمازيغية،
وليس فيها إعلام أمازيغي، وليس فيها مشاريع تبتغي إعادة الاعتبار إلى لغة وثقافة وتاريخ
يضرب بجذوره في الماضي الأمازيغي. هناك خطاب اختزالي واحد قوي يُعتبر استمراراً للخطابات
الإقصائية، وهناك سياسة واحدة هي سياسة التعريب الأبدية، لا فرق في ذلك بين عهد الرئيس
بورقيبية وعهد الرئيس ابن علي وعهد الرئيس منصف المرزوقي ورئيس وزرائه السيد حمادي
الجبالي.
وأما في الجزائر فإن أشكال المناورة التي أتقنتها
وتتقنها الدولة الجزائرية قد جعلت الأمازيغية فيها تتخذ مسارات خطيرة. إذ بالرغم من
“انتفاضة الربيع الأسود” التي اندلعت سنة 2001، والتي ذهب ضحيتها ما يزيد عن 120 شهيد،
وكذا بالرغم من كل الانتفاضات السابقة خاصة انتفاضة الربيع الأمازيغي سنة 1980 والتي
سقط فيها أيضاً العشرات من القتلى والجرحى، بالإضافة إلى انتفاضة المحافظ سنة 1994
والتي قاطع خلالها الأمازيغ المدرسة العروبية الجزائرية إلخ. بل وبالرغم من الإعلان
عن إنشاء حكومة لمنطقة القبائل في المنفى وفي إطار الاستقلال الذاتي الثقافي منذ أكثر
من سنتين، فإن الأمازيغية ما زالت تعيش وضعاً أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه وضع يراوح
مكانه. صحيح أن الدولة الجزائرية اعترفت بالأمازيغية لغة وطنية منذ أبريل 2002، وصحيح
أيضأً أنها أدرجت الأمازيغية في منظومتها التعليمية منذ سنة 1995، وصحيح أنها أسست
المحافظة السامية للأمازيغية وأطلقت قناة أمازيغية منذ 2009 وصحيح أيضاً أن هناك حزبان
أمازيغيان منغرسان في منطقة القبائل يدافعان عن الأمازيغية إلخ. إلا أن كل هذا لا ينفي
حقائق صادمة، وهي أن الدولة ما تزال وفية لمنطلقاتها الإيديولوجية الأولى التي عبر
عنها أحمد بن بلة في جملته الشهيرة منذ الستينات: ” نحن عرب، عرب، عرب، عشرة ملايين
عربي ولا مستقبل لهذا البلد بدون التعريب”؛ ولذلك فإن كل الحركات التي تدعي غير ذلك،
كحركة (F.F.S) إنما هي- في نظر
عراب الإيديولوجيا القومية- حركات “انفصالية دبرتها الإمبريالية والرجعية“
وعلى هذا الأساس فإن الدولة الجزائرية لم تُقدم
لحد الآن أية مشاريع جدية لتطوير اللغة الأمازيغية وثقافتها؛ فهي، مثلاً، لم تحسم في
إشكالية الحرف، وتركت الحبل على الغارب في المؤسسات التعليمية، بعضهم يعلم بالحرف اللاتيني
والبعض الآخر بالحرف العربي والبعض الثالث بحرف تيفيناغ، كما أنها تركت مؤلفي الكتب
المدرسية يؤلفون كتبهم بالحرف الذين هم مقتنعون به؛ مما ولد فوضى إن لم نقل نوعاً من
اللاجدوى، إذ في الوقت الذي يتعلم فيه الأطفال اللغة العربية واللغة الفرنسية بحروفها
الأصلية تُركت الأمازيغية للقناعات الفردية للمعلمين؛ وهو أمر يُراد من ورائه تمييع
وإفشال تدريس اللغة الأمازيغية؛ وأما فيما يتعلق بالإلزامية والتعميم فبالإضافة إلى
أن الغلاف الزمني للتدريس لا يتجاوز ثلاث (3) ساعات أسبوعية، كما في المغرب، والذي
لا يُحترم في الغالب، فإن السلطات الجزائرية، وسيراً في طريق محاصرة هذه اللغة، ستعتبر
إدراجها في المنظومة التربوية عملاً اختيارياً خاضعاً لأهواء الآباء والأمهات، ومقصوراً
فقط على الأمازيغ الذين يريدون أن يدرسوها بالمناطق الأمازيغية، بعيداً عن كل الأسر
الجزائرية الأخرى. وقد توجت هذا العمل بطبيعة الحال بفتحها المجال واسعاً أمام سياسة
لغوية تشتيتية تتوخى من ورائها تقديم الأمازيغية في شكل تنويعات لهجية مفصولة عن بعضها
البعض ولا يربط بينها أي رابط معياري، ولتثبت للشعب في النهاية أن هذه اللغة (اللغات)
الأمازيغية لغة فاشلة ولا تستحق أن تدخل إلى المدرسة.
كما أن من تجليات استهتار الدولة الجزائرية بالمطالب
الأمازيغية، هي أنها لم تضع، رغم الاعتراف بوطنية الأمازيغية (دون رسميتها) أي عُدة
تشريعية أو مؤسساتية أو مالية لضمان تنفيذ هذا الاعتراف؛ بل والأدهى من كل ذلك هو أن
هناك قانوناً للتعريب هو قانون 91-05 لـ 16 يناير 1991 يمنع بشكل واضح أي استعمال للغة
أخرى غير اللغة العربية في مرافق الدولة؛ وقد استرجع بوتفليقة هذا الإطار المرجعي ليؤكد
يوم 4 أكتوبر 2005 بقسنطينة، أن الأمازيغية لن تكون مرسمة، وأن اللغة العربية هي وحدها
اللغة التي يجب أن تبقى رسمية. ويبقى السؤال الأخير هو: هل سيغير بوتفليقة أو من سيأتي
بعده الرأي خاصة بعد الثورات التي أودت بالقوميات والدكتاتوريات العربية في تونس وليبيا
ومصر واليمن وسوريا إلخ؟ هو سؤال سنترك الإجابة عنه للمستقبل.
وأما بالنسبة للمغرب فيمكن لنا أن نتحدث عن حالة
أخرى فريدة، ليس لكونها لم تعش القهر الثقافي والهوياتي الذي عاشته الدول المجاورة
له، فهذا أمر مسلّم به؛ ولكن لأن النظام المغربي كان يتميز بنوع من الليونة في التعامل
مع هذه القضية. وذلك لاعتبارات سياسية على رأسها أن المخزن كان حذراً من الطروحات القومية
الشرقية التي كانت تبرر التدخلات المباشرة للقادة القوميين في السياسات الداخلية للدول
التي كانت تعتبرها عربية. ولذلك سنلاحظ أن التبني المغربي للتعريب –كما أشرنا- كان
تبنياً ثقافياً وهوياتياً أكثر مما كان تبنياً سياسياً وإيديولوجياً؛ فهو لم يكن يتجاوز
المنطلقات الهوياتية التي تومن بمبدأ العروبة دون المرور إلى المبدأ السياسي الذي يدعو
إلى تجاوز الدولة القطرية من أجل بناء الأمة العربية الموحدة من المحيط إلى الخليج.
وقد عبر الحسن الثاني عن مفهومه هذا للوحدة العربية في أكثر من محطة إلى الدرجة التي
تحفظ فيها على اسم “اتحاد المغرب العربي”، عندما تم تأسيسه، لما يحمله هذا الاسم من
دلالات قومية أراد أن يفرضها القذافي وحكام الجزائر. بل يمكن تلمس هذا المفهوم أيضاً
في مواقفه من التعليم؛ فقد ظل يؤكد دائماً على ضرورة الازدواجية اللغوية، وفي الحالات
التي كان يأتي فيها إليه القادة العرب لحثه على الإسراع في عملية نشر التعليم، بما
يعني ذلك تعريب الشعب المغربي الذي كان الأمازيغ يشكلون أغلبيته، فإن الملك كان يرفض
هذا الأمر، لما كان يحيل عليه هذا الفعل من رهانات ايديولوجية لدى القوميين كان يعارضها
الملك.
ولذلك فإن المتتبع للشؤون الهوياتية بالمغرب وبمنطقة
شمال إفريقيا عموماً سيلاحظ، مثلاً، أن المواقف القومية كانت أكثر تطرفاً في كل من
الجزائر وليبيا وتونس، على اعتبار أنها كانت تنهل بشكل مباشر، وعلى تفاوت، من معين
البعثية الاستئصالية، في حين أن “العروبة” المغربية –إذا استثنينا مواقف الأحزاب الوطنية
العروبية والبعثية بالمغرب- كانت ترفض “عروبة”
الانقلابات العسكرية والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول المستقلة تحت أي ذريعة
وكيفما كانت. ومن هنا نفهم أيضاً كيف أن المغرب كانت علاقاته الدبلوماسية متوترة مع
هذه الدول التي كانت تعتبر نفسها مهد القوميات العربية. ولن نفشي سراً إذا أكدنا أن
أكبر دعاة الأمازيغية الأوائل كانوا قريبين جداً من محيط القصر الملكي، وذلك مثل المحجوبي
أحرضان، مؤسس الحركة الشعبية الذي وقف في وجه الاختيارات السياسية التعريبية لبعض الأحزاب
الوطنية، ومحمد شفيق مدير المدرسة المولوية وعضو أكاديمية المملكة وصاحب المعجم الأمازيغي
والذي قدم أكثر من مرافعة دفاعاً عن اللغة والثقافة الأمازيغيتين؛ بالإضافة أيضاً إلى
حسن أوريد الذي لعب دوراً مهماً في تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والذي
لم يكن يخفي أبداً دفاعه عن الأمازيغية رغم تقلده لمسؤوليات عليا؛ وهكذا فمن داخل المحيط
القريب من الملك سنلاحظ أنه كان هناك من يرفع صوته للتأكيد من جهة على أمازيغية المغرب،
وللتأكيد من جهة ثانية على عروبة مغربية ثقافية تتوقف عند تعلم اللغة العربية وثقافتها
ولكن دون أن يؤثر ذلك بشكل سلبي على الهوية الأمازيغية بمختلف مكوناتها. وهذا هو ما
لم نكن نجده في الأوساط القريبة لمالكي السلطة في الدول المغاربية الأخرى. بل وهذا
هو السبب الذي سيجعل الملكية في المغرب تستجيب بشكل أو بآخر، وبدون عقد إيديولوجية،
لبعض المطالب الأمازيغية وتشكل وحدها في البداية الفاعل الأساسي الذي اعترف بالأمازيغية
في الوقت الذي كانت فيه أغلب الأحزاب الوطنية تمانع وترفض.
ونحن إذا كنا نسجل هنا هذا الفرق
بين المفهومين للعروبة (المفهوم الإقصائي والعنصري والمفهوم الثقافي)، فإننا نؤكد في
المقابل أن التصور المغربي للهوية كما تم تنزيله طيلة الخمسين سنة الماضية لم يكن أقل
خطورة عن التصور البعثي فيما يتعلق بالتعامل مع المكون الأمازيغي. إذ نتيجة للسياق
القومي العروبي الإيديولوجي والتوجه نحو بناء دولة ممركزة قائمة على الواحديات المعروفة
(لغة واحدة، ثقافة واحدة، دين واحد، وهوية واحدة إلخ) ستُهمش الأمازيغية في جميع مؤسسات
الدولة. ويخبرنا أحرضان في أحد حوارته بإحدى مجلات “تيفيناغ” أن الملك الحسن الثاني،
في بداية الاستقلال، صرح يوما في إحدى جلساته عندما أثير موضوع الأمازيغية، أن هذه
القضية سنعالجها بعد عشرين سنة، أي بعد أن يرسخ المؤسسات ويمركزها. وبعد أكثر من عشرين
سنة سيأتي خطابه سنة 1995، كما ستأتي المبادرات التي أطلقها الملك محمد السادس؛ غير
أن كل هذه المبادرات كانت تصطدم بواقع عنيد منها ما يرتبط أساساً بالأحزاب التي تتداول
على كراسي الوزارات، ومنها ما يرتبط بالذهنيات التي تشكلت طيلة العقود الماضية لدى
المسؤولين في وزارات التعليم والثقافة والإعلام والإدارة عموماَ. وهكذا فبالرغم مثلاَ
من أن الدولة المغربية أنشأت المعهد الملكي الذي وقع مع وزارة التربية الوطنية اتفاقية
إطار لإدراج الأمازيغية في المنظومة التعليمية منذ 2003 وتعميمها بشكل كلي في جميع
المسارات ومستويات التعليم في حدود 2011، لم نصل لحد الآن إلى تعميمها حتى في الابتدائي
الذي لا يتجاوز عدد المستفيدين من تعلمها 500.000 تلميذة وتلميذ من أصل حوالي أربعة
ملايين متمدرس تقريباً. ولاحظوا معي أن من ضمن هذه الـ 500.000 (إذا صح هذا الرقم)
لا يصل إلى المستوى السادس سوى حوالي 17 / (في المائة) منهم؛ كما أن من أصل 14.000
أستاذ متخصص الذين نحتاجهم لتعميم التعليم في المستويات الابتدائية لا تمتلك المنظومة
المغربية سوى 385 أستاذاً متخصصاً؛ وإذا سرنا على هذه الوتيرة فإن معنى ذلك أن الأمازيغية
لن تتعمم في الابتدائي إلا بعد حوالي 65 سنة أو أكثر. أي في وقت تكون الأمازيغية قد
شبعت موتاً كما تؤكد الدراسات في هذا الصدد. وأما في الإعدادي والثانوي فلحد الآن ليس
هناك تلميذ واحد يتابع دراسته في الأمازيغية، كما أنه ليس هناك أستاذ واحد تم تكوينه.
وعلى المستوى الإعلامي سنلاحظ أن مشهدنا السمعي
–البصري لم يزدن فراشه بقناة أمازيغية، هي قناة تمازيغت، إلا منذ سنة 2010؛ ومع ذلك
فإن هذه القناة –ورغم حداثة سنها- تعيش أوضاعاً صعبة على شتى المستويات، كما اعترف
بذلك الوزير مصطفى الخلفي شخصياً. فهي قناة لا تنتج أفلاماً بل تكتفي بدبلجة أفلام
شاهدها المغاربة بالدارجة أو بالعربية؛ كما أن الرسوم المتحركة لا تتم دبلجتها إلى
الأمازيغية إلا فيما ندر؛ وغالباً ما يشتغل بها الموظفون بشكل مكدس إلى الدرجة التي
يستحيل داخلها التنفس في الفصول الحارة. وأما على مستوى إدراج الأمازيغية في الإدارات
المغربية فيُلاحظ أن هناك تردداً واضحاً، إذ بالرغم، مثلاً، من أن الملك محمد السادس
كان قد أعطى أوامره لاستعمال الأمازيغية في القضاء، بإيجاد مترجمين، يلاحظ أنه لحد
الآن ليس هناك أي مشروع في هذا الاتجاه. وتظل بعض المبادرات على مستوى كتابة أسماء
المؤسسات بالأمازيغية وبحرف تيفيناغ جد محدودة،
ولا تُعبر بالضبط عن المغرب المتعدد الذي يجب أن يتمظهر للمواطنين وللأجانب بشكل واضح
على المستوى البصري. والأدهى من كل ذلك هو أنه في عز الاعتراف الدستوري بترسيم الأمازيغية
ما زالت بعض إدارات الحالة المدنية ترفض التسميات الأمازيغية التي يريد الآباء والأمهات
منحها للمواليد الجدد.
ويظل مع ذلك أن أكبر إنجاز تم تحقيقه لحد الآن هو
إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي تمكن من أن ينتج على المستوى الأكاديمي
ما لم يتم إنتاجه طيلة الخمسين سنة الماضية؛ كما أن تدخلاته في شتى الميادين كالتعليم
والإعلام واللغة والثقافة قد جعله يضع الأرضية العلمية التي تجعل منه اليوم قطباً مرجعياً
في العالم وفي الدول المغاربية التي بدأت ترجع إليه في العديد من القضايا المرتبطة
بالمعيرة أو بالتدريس أو بغيرها. وتتميز تجربته في التدريس عن التجربتين الجزائرية
والليبية، مثلاً، في كونه وضع مبادئ تجعل من الأمازيغية ملكاً لكل المغاربة وليست ملكاً
لفئة دون أخرى؛ ولذلك نجده يتبنى رسمياً مبدأ الإلزامية (تدريسها إلزامياً لكل الأطفال
المغاربة) ومبدأ التعميم (تعميمها في كل المستويات والمسارات الدراسية)، ومبدأ المعيرة
(تدريس الأمازيغية في اتجاه توحيدها)، ثم أخيراً مبدأ حرف تيفيناغ الذي أصبح الحرف
الرسمي للغة الأمازيغية.
وإذا كنا نقر (وهذا هو تقييمنا للتجربة) أن هذه
المكتسبات التي تحققت إلى حدود 2011، هي الأفضل على المستوى المغاربي (بالرغم من كل
المشاكل المستعصية)، فإن الأسئلة المطروحة بإلحاح اليوم ترتبط أساساً بتفعيل الدستور
وبخاصة بوضع القانونين التنظيميين اللذين لم يريا النور لحد الآن. هل سيكون هناك اتجاه
نحو ترصيد ما تم إنتاجه منذ تأسيس المعهد الملكي إلى اليوم، بما يعني ذلك من تنزيل
لقانون ترسيم اللغة الأمازيغية يعيد إلى هذه الأخيرة اعتبارها ويمنحها نفس الإمكانيات
التي لأختها العربية، أم أن ذهنية التمييز ستطال هذا القانون مما سيجعلنا نعيش مرة
أخرى نفس التسويفات والإرجاءات التي عشناها خلال العقد الأخير؟ أيضاً ما هو مصير المعهد
الملكي للثقافة الأمازيغية؟ هل سنرصد تجربته، ونمنحه الإمكانيات اللازمة، ونقوي أداءه
وموقعه القانوني أم سنفرغه من المهام التي كان يضطلع بها ونجعل منه مؤسسة للديكور يتحكم
فيها رئيس حكومة ليست الأمازيغية من أولوياته؟ ثم كيف سيكون مجلس اللغات والثقافة المغربية؟
وما هي المهام التي ستؤول إليه؟ وكيف ستكون وضعية المؤسسات والمعاهد العلمية التي سيضمها؟
وما هي والوضعية القانونية والمهام المنوطة بكل واحدة منها؟ ثم ما موقع المعهد الملكي،
مرة أخرى، في كل ذلك؟ إن كل المؤشرات تؤكد أنه بدون ضغط شعبي وازن وبدون تدخل ملكي
كما تجري العادة سيكون مصير هذا القانون هو التقزيم، ومعه ستتقزم الأمازيغية.
س : ماهي في رأيك الآليات القمينة برد الاعتبار
للتاريخ والحضارة الأمازيغيتين في ظل الحفاظ على وحدة الهوية المغربية في كل أبعادها
الإثنية والثقافية والسوسيولوجية ؟
ج : لا يتعلق الأمر هنا بآليات فقط لرد الاعتبار،
ولكن يتعلق أيضاً بالنموذج المجتمعي الذي نريده. هل نريد مجتمعاً حداثياً منفتحاً على
التعدد ويفتخر بحاضره وماضيه ويخطط لبناء مستقبله؛ أم أننا نريد مجتمعاً أحادياً كما
دأبنا نفعل ذلك منذ أكثر من خمسين سنة. إن رد الاعتبار للتاريخ والحضارة الأمازيغيتين
يتطلب أولاً إعادة الاعتبار إلى الجغرافيا، فكل قارات العالم تمتلك جغرافياً شمالها
إلا إفريقيا. إذ لا يُعقل أن ننفي الخاصية الإفريقية (والأمازيغية) عن هذه المنطقة،
ونعتبرها كما لو أنها جزء من آسيا ومن تاريخها. لاحظوا مثلاً كيف نتحدث، في إعلامنا،
عن الشعوب الإفريقية جنوب موريطانيا والجزائر وليبيا؛ إنها بالنسبة لهم شعوب إفريقية
تنتمي إلى قارة أخرى دوننا؛ وأما نحن فنشكل جزءاً من شعب آخر يقع في قارة بعيدة عنها.
علينا، إذن، أن نكون مرتبطين بهذه الأرض التي نعيش فوقها والتي أنتجنا بفضل موقعها
هذه الهوية التي نتحدث عنها، ولكن في نفس الوقت علينا أن نكون منفتحين على غيرنا. إن
وحدة الهوية لا تعني بتاتاً إقصاء مكون أو قتله كما كان يطلب ذلك بعض مثقفينا القوميين.
ولكن يعني إدماج كل هذه المكونات بكل أبعادها في المنظومة القيمية التي تعيد إنتاجها
وتحيينها وتطويرها مؤسساتُنا العلمية والجامعية والتربوية والإعلامية والإدارية إلخ.
وأعتقد أن أول شيء يمكن القيام به في هذا الصدد
هو إعادة الاعتبار، في مناهجنا الدراسية، إلى تاريخنا الجمعي وإلى الحضارة الأمازيغية
التي تمتد لآلاف السنين على هذه الأرض. إذ كيف يمكن لنا أن يحس أبناؤنا بانتمائهم إلى
هذه الحضارة وإلى هذه الجغرافيا وكلُّ الكتب المدرسية لا تتحدث عن هذا التاريخ إلا
بوصفه تاريخ أجانب ومستعمرين وغزاة؛ فهو تاريخ فنيقيين وتاريخ رومان ووندال وتاريخ
فرنسيين وإسبان إلخ. وأما نحن فلا وجود لنا إلا بوصفنا سكاناً أوائل، ثم لا شيء بعد
ذلك. إذ يتم السكوت عن التاريخ القديم وعن كل المساهمات التي قدمها الأمازيغ في مختلف
المجالات العلمية والمعمارية والفكرية والسياسية، ويتم السكوت عن الممالك الأمازيغية
قديماً وحديثاً وتُقدم كما لو أنها عبارة عن مجموعة قبائل متخلفة ومتناحرة فيما بينها.
في الوقت الذي يتم فيه الرفع من شأن المستعمرين والتأكيد على أنهم هم وحدهم من صنع
حضارتنا وأننا لم نكن عندهم إلا “عمالاً” أو “عبيداً” مياومين. والأسوأ في كل هذا هو
أن هذه المناهج عندما تحط من قيمة الأمازيغ، وعبرهم من قيمة كل المغاربة والمغاربيين،
نراها إلى جانب ذلك تُقدم قراءات مغرضة وخاطئة عن بعض اللحظات التاريخية سواء في عصر
ما قبل الإسلام أو في عصر الفتوحات والعصور الوسطى أو في العصر الحديث مع تركيزها أكثر
على تاريخ الحروب وليس على تاريخ السلم. وأما في الحالات التي تقدم فيها المراحل الحضارية
الأقدم فإنها تتوقف عند بلاد الرافدين وعند المصريين والصينيين والهنود إلخ دون أن
تنبس بكلمة واحدة عن اللقى التي وُجدت بمنطقة شمال إفريقيا والتي تؤكد على الحضارات
التي مرت من هنا. وللأسف فإنه عندما نتأمل في كل هذه المضامين سنجد أنفسنا أمام منظومة
تعليمية تخرج مواطنين يعتزون بتواريخ الأجانب والمستعمرين، ويحتقرون تاريخهم لأنه في
نظرهم (أو كما قُدم لهم) تاريخ فقير لم يُقدم أي شيء للإنسانية.
إن إعادة الاعتبار إلى المكون الأمازيغي يجب أن
يندرج –في نظرنا- في إطار إعادة الاعتبار إلى الكيان المغربي في كليته، وليس إعادة
الاعتبار لإثنية في مواجهة إثنية أخرى (وإن كنا لا نعترف بالحدود الإثنية بالمغرب)؛
وهو ما يعني أنه كما أن العربية بلغاتها وثقافتها وتاريخها جزء من حضارة الأمازيغ يجب
أن نقدم الأمازيغية بلغاتها وثقافتها وتاريخها بوصفها جزء من حضارة العربي. ويبدو لي
أن الخطاب الملكي الذي أكد فيه على مبدأ كون الأمازيغية ملك لكل المغاربة هو ما سيقف
في وجه أي نوع من المذهبة الإتنية كيفما كان نوعها عربيةً أو أمازيغية. وهو ما سيؤسس
لثقافة جديدة قائمة على استضمار كل قيمنا الرمزية الحضارية وعبرها هويتنا المغربية
المتعددة.
س : كيف تنظرإلى مستقبل المكون الأمازيغي على مستوى
دول شمال إفريقيا ألا تهدد بعض دعوات الإنفصال التي تجهربها بعض هيآت المجتمع المدني
الأمازيغي القاطنة في أوروبا إلى تهديد الإستقرار وإلى المزيد من الإنفجارات في هذه
الدول؟
ج : أولاً أنا لم أسمع أبداً بأي دعوة انفصالية
لا في المغرب ولا في أوروبا. فكل ما هناك أن شباباً أمازيغ يجتمعون سواء في المغرب
أو في خارج المغرب بعضهم يتحدث عن ضرورة التدبير الثقافي واللساني في إطار الجهوية
الموسعة كما تريد أن تطرحها به الدولة أو في إطار حكم ذاتي تعتبره مناسباً لإعادة النظر
في كيفية تسيير شؤؤننا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية إلخ على غرار ما هو موجود
مثلاً في إسبانيا مع الكطلان والباسك إلخ أو على غرار ما هو موجود في بلجيكا وسويسرا
إلخ. بصيغة أخرى إن هؤلاء الشباب يطرحون القضية الأمازيغية في إطار الوحدة الوطنية،
ولذلك تراهم من أكثر الناس انتقاداً للأطروحة الانفصالية في الصحراء المغربية. أضف
إلى هذا أن هؤلاء الشباب ومعهم الحركة الثقافية الأمازيغية عموماً تمكنوا – وهو ما
لم تقدر عليه الكثير من الأحزاب المغربية والنشطاء والفاعلين في المجتمع المغربي- من
أن يقنعوا كل الحركات الأمازيغية في شمال إفريقيا والشتات بالطرح الوحدوي المغربي.
هذا ما فعلته مثلاً مع الحركة الأمازيغية في جزر الكناري وهذا ما فعلته مع الحركة الأمازيغية
في كل من الجزائر وليبيا. إن الذين يتهمون الحركة الأمازيغية بالانفصال نعرفهم جيداً.
وإني لأتحدى أي واحد منهم أن يأتي بنص، بياناً كان أو بلاغاً أو قراراً تعلن فيه جمعية
أمازيغية أو مجلس أمازيغي أو فيديرالية أمازيغية عن موقف انفصالي. وعلى هذا الأساس
فإن كل العمل الذي يُقام الآن في مجال اللغة والثقافة الأمازيغية يُقام على أسس وطنية؛
فهناك معيرة أمازيغية على أساس وطني، وهناك عمل أكاديمي يقوم به المعهد يقوم على أساس
وطني، كما أن كل الجمعيات الثقافية الأمازيغية داخل المغرب وخارجه تعمل في إطار ثقافة
وطنية وهوية وطنية جامعة. إن علينا أن نتخلص من تلك الآثار المدمرة التي كرسها وطنيو
العروبة بخلقهم لأسطورة ما أسموه بـ”الظهير البربري”؛ فهم من خلقوه، وهم من آمن به
وصدقه، وهم من قرره في المناهج الدراسية لكي يقدموا الأمازيغ كما لو أنهم انفصاليين
ويقدموا وطنيي العروبة بوصفهم هم وحدهم التوحيديين. ولذلك لنكن صاقين مع أنفسنا: إن
الذي يهدد الاستقرار ويؤدي إلى الانفجارات ليس أن يُعطى لكل ذي حق حقه. إن الذي يؤدي
إلى الانفجارات هو الظلم و”الحكرة” والتهميش والإقصاء والحط من الإنسان بسبب اللون
أو اللغة أو الدين أو الثقافة أو غيره.
س : وضعت ميكروسوفت ويندووز8 تيفيناغ ضمن الخطوط
المعتمدة عالميا مما سيمكن التراث والحضارة والثقافة والأدب الأمازيغي من أدوات المعلوماتية
والرقمية والنشر الإلكتروني على أوسع نطاق شبكي (إنترنت) . ألا يمكن الحديث اليوم عن
بداية إنشطار في مكونات الهوية المغربية إلى مكونين مستقلين أحدهما عن الآخر؟؟
ج : هل يعني هذا أن تهميش الأمازيغية وتفقيرها وإقصاءها
سيؤدي بالضرورة إلى تحييد هذا الانشطار، أم أنه قد يؤدي إلى عكس ذلك تماماً كما علمتنا
الكثير من التجارب في العالم. لنكن واضحين. إن الأمازيغ – إذا عدنا إلى تاريخنا الطويل-
لم يحملوا أبداً السلاح ضد شعب لكونهم يختلفون معهم عرقياً أو إتنياً أو ثقافيا. كما
أن الشعب الأمازيغي لم يؤسس أبداً طيلة تاريخه أي دولة على أسس عرقية أو قومية. لنقرأ
التاريخ جيداً. وهذا ليس لأنه لم يوجِد الشروط الإيديولوجية لفعل ذلك. ولكن فقط لأن
القيم الأمازيغية لم ولا تومن بالعرقية؛ فهي لم تؤسس أبداً لشجرات الأنساب ولم تفتخر
أبداً بالدم. ولم تدع الانتماء إلى الأرومات العرقية “النقية” للاستيلاء على السلطة.
لقد ظل هذا الشعب يعتبر نفسه ككل الشعوب ليس فيهم شرفاء تجري في عروقهم دماء مقدسة،
والآخرون كلهم تجري في دمائهم الدماء المدنسة. لكن على المستوى الثقافي، وهذا وعي عصري جديد، لاحظ الأمازيغ
(أو النخب فيهم) أن الأمازيغية لا يمكن لها أن تستمر في الحياة ولا أن تتطور وتضطلع
بأدوارها التي كانت تضطلع بها في القديم إذا لم تصطنع لها كما العربية والفرنسية والثقافات
الأخرى الوسائل التكنولوجية الحديثة والتي من بينها الوينداوز 8. فإذا كانت اللغة الأمازيغية
وثقافتها قد تعايشت لقرون طويلة مع العربية، وكانت الأغلبية في ذلك الزمن أغلبية أمازيغية،
ولم يسجل التاريخ أي انشطار في الهوية المغربية ولا المغاربية، بل ولم يقع أي صراع
بين المغاربة على أسس عرقية أو إتنية إلا ما تعلق بالصراعات حول المراعي أو حول مصادر
العيش أو حول السلطة، فكيف يمكن أن نطرح هذا النوع من الأسئلة؟ إن انتشار الأمازيغية
يجب أن يكون مبعث افتخار لكل المغاربة لأنها عمق الهوية الوطنية، وإن انتشار العربية
يجب أن يكون أيضاً مبعث افتخار لكل المغاربة لأنها العمق المقابل لهذه الهوية. ومن
يفتخر بنصفه ويحتقر نصفه الآخر، فإنه لا يمكن لنا إلا أن نطلب له الشفاء العاجل من
وعيه الوطني المشلول.
س : على المستوى الإعلامي الورقي والسمعي البصري
كيف تقيمون التجربة الحالية وما هي مقترحاتك للنهوض إعلاميا بالمكون الأمازيغي ؟
ج : إن التجربة الإعلامية الحالية ما تزال في بداياتها
الأولى المتعثرة. وهي بدايات وإن كنا نقيمها إيجابياً إلا أنها تحتاج إلى الكثير من
الجهد لكي تنهض على رجليها وتنطلق مسرعة. وإن أول شيء يمكن أن نثيره في هذا الصدد هو
أن هناك تمييزاً إعلامياً ضد الأمازيغية. وكل التجارب الإعلامية الورقية التي تأسست
في السنوات الأخيرة تعيش أزمة حادة نتيجة لعدم أخذ الدولة بيدها. وهكذا توقفت أغلب
هذه التجارب التي تصل إلى حوالي 08 تجارب، وكان آخرها تجربة جريدة “تاويزا” التي كانت
تصدر من مدينة الناظور، والتي توقفت السنة الماضية. وأما بالنسبة للتجربة الوحيدة المتبقية،
وهي جريدة “العالم الأمازيغي”، فإنها مازالت إلى اليوم تناضل وتتحمل كل الأعباء وحدها،
إلى الدرجة التي أصبح فيها أصحابها يصرفون من جيوبهم عليها، في الوقت الذي نجد فيه
صحفاً بالفرنسية والعربية تأخذ الدولة بيد أصحابها وذلك بالرغم من أن بعضها لا يعيش
أي أزمة. وأما فيما يتعلق بالإعلام السمعي البصري، فإن التمييز لا يتجلى فقط في كون
الإذاعات والقنوات يقتصر بثها على ساعات محددة وقليلة خلال اليوم ولا تغطي كل ربوع
الوطن ولا تُقدم لها الوسائل والإمكانيات اللوجيستيكية والمالية القمينة بتطوير أدائها
بل أيضاً في كون صحفييها والمشتغلين فيها يتعرضون لإقصاء وتهميش واضحين حينما يتعلق
الأمر مثلاً بالتكوين الذي يستفيد منه زملاؤهم باللغات الأخرى دونهم؛ كما أنهم يُستبعدون
بشكل مفضوح من كل التغطيات ذات الأهمية الوطنية أو الدولية كتغطية الأنشطة الملكية
بشكل مباشر أو تغطية أنشطة خارج الوطن. مما يحز في أنفسهم ويؤثر على معنوياتهم ويعتبرون
أنفسهم الحلقة الأضعف في الجسم الإعلامي كله.
ولذلك فإن المقترح الوحيد الذي يمكن أن أتقدم به
في هذا الإطار هو: العدالة والمساواة. فكلما بقي المسؤولون يميزون بين مكوناتنا اللغوية
والثقافية والحضارية وعبْرها يميزون بين أبناء البلد الواحد فإننا لن نكون فقط بعيدين
عن نموذج المجتمع العادل والحداثي والمتضامن الذي نريده، ولكن نكون نمأسس جادين لتمييز
على أساس اللغة ونهيء التربة الفاسدة لذلك الانشطار المُتَحدّث عنه، والذي لم يعشه
بلدنا أبداً في تاريخه الطويل.
0 التعليقات: