الجمعة، 27 ديسمبر 2013

اَلمنعطَـف الثقافيّ .. مُلحَقٌ افتقـدْناه! فريد أمعضشـو.ناقد من المغرب

نشرت من طرف : ABDOUHAKKI  |  في  12:00 م

اَلمنعطَـف الثقافيّ .. مُلحَقٌ افتقـدْناه! فريد أمعضشـو.ناقد من المغرب
دأبتْ جرائدُنا الوطنية على تخصيص حيّز للشأن الثقافي والأدبي (صفحة أو أكثر)، يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً، يكون مناسَبَة للكُتّاب المَغاربة، أساساً، لنشْر ما تجود به قرائحُهم من إبداعات وخواطِر، وما تدبِّجُه يَراعُهم من مقالات أدبية وفكرية ومن ترجمات لنصوص من الأدب العالمي، ولإطْلاعِهم على جديدِ النشر في المغرب وخارجه كذلك. ولم يكن ذلك، طبْعاً، يمنعُها من الترحيب بنشْر
كتاباتِ نقّادٍ ومُبْدِعين من سائر أقطار الوطن العربي، شَرْطَ أنْ تلائمَ خطَّها التحريريّ، وتتوفّر لها مقوِّمات الجِدَّة والأصالة والرَّصانة إلى حدٍّ مّا.
وإذا كانت تلك الصُّحُف تُدْرج ما تنشُره من مواد ثقافيّة يومياً، عادةً، تحت عنوان “الصفحة الثقافية”، أو “صفحة ثقافة”، فإنها أطلقت – وما زالت – على الملاحق الثقافية والأدبية التي تنشرُها، بصفة دَوْرية، عدة أسماء، تتنوَّع ما بين: الملحق الثقافي، والمِلفّ الثقافي، وفكر وإبداع، وملتقى الفكر، ومسارات ثقافية، ونحْوها من الأسَامي. ونسجّل، هنا، أن أكثرَ الصحف الوطنية، وتحديداً تلك المُتحَزِّبة، لم تكن تقبل للنشر بين صفحات ملاحقها الثقافية إلا الكتابات التي تأتيها ممَّنْ هُم محْسوبون على الحزب السياسي الذي تنطق باسمه، أو التي تدافع عن طروحاته وتخدم مصالحَه، وإنْ كانت قيمتها، معرفياً وإبداعياً ومنهجياً وتعبيرياً، ضَحْلةً، بل إنها، أحياناً، كانت تحْظى بغير قليل من التقريظ. في الوقت الذي كانت تُقصي كتاباتٍ أخرى على قدْر كبير من الفَرادَة والنُّضْج والألق الإبداعي! وكثيراً ما استحالتْ تلك الصفحاتُ إلى مجال احتضنَ معاركَ ساخنةً بين أدباء متحزِّبين؛ كلّ ينتصر لحزبه، وينافِح عن مبادئه ومُنجَزاته، ويكيل الاتهامات لمُنافِسه أو معارِضِه!
إن هكذا وضْع، في ميدان كان مُفترَضاً فيه أنْ يَنْأى عن السقوط في مثل تلك المَهاوي، أثار حَفيظة عددٍ من أدبائنا الكِبار، وعلى رأسهم د. محمد بنّيس الذي آخَذَ تلك الجرائد على خطّها التحريري الإيديولوجي ذاك؛ لأنه حرَم الثقافة المغربية من نصوصٍ قِمّة في الإبداع والنقد الجادّ، وخَلَعَ على سُلوكها ذاك الذي يربط بين الأدبي والحزبي .. بين النشرفي ملاحقها والانتساب إلى حزب الجريدة، صفةَ “المانَويّة” التي تشير إلى عقيدة “مانِي”؛ الصُّوفيّ الفارسيّ الأشْهر الذي بناها على منطق الثنائيات المتحكِّم في الوجود كلِّه؛ كالخير والشرّ، والنور والظلام، والملائكة والشياطين. (المساء، ع.1855، الثلاثاء 11/09/2012، ص18)
ولم يشهد هذا الوضْع انعِطافة واضحة، في اتجاه السعْي إلى التحرر من رِبْقة ذلك التلازم المشروط بين الأدبي والحزبي، إلا بعد أنِ ازدان المشْهدُ الصِّحافيّ المغربي بجُملةِ جرائدَ مستقلةٍ، لا تتْبَع لأيّ تنظيم سياسي أو ديني، بل عَمَدَت إلى نشْر المواد الثقافية الجَديرة بالنشْر دونَما نَظرٍ إلى انتماءات كُتّابها ومُبْدعيها. وقد عُدَّ ذلك مُؤشِّر تعافٍ رامياً إلى إظهار أدب البلد، والإخبار بما يعْرفه من أنشطة ثقافية، وتوفير موادّ تُحقِّق لدى القارئ المتعطِّش الإمْتاعَ والإفادة معاً. ونشير في هذا السياق، من باب التمثيل فقط، إلى تجربة جريدة “المساء”، التي تعدّ اليومَ الأكثرَ مَقروئيةً في المغرب؛ كما تؤكّد ذلك إحصاءات الجهات المَعْنية بقياس تلك المقروئية على صَعيد الصِّحافة الورقية المكتوبة. فإلى جانب تخصيصها صفحةً للشأن الثقافي، طَوالَ أيام الأسبوع تقريباً، كانت – في وقت سابق – تُفْرِد لذلك الشأن مُلْحقاً شهرياً، أعقبه ملحقٌ ثقافي أسبُوعي يتناول ملفّاً مُختاراً.
وفي الحقيقة، فإن ما قُلْناه عن ملاحِق الجرائد المتحزّبة آنِفاً لا يَنْسحِب عليها جميعِها بنفس الدرجة؛ ذلك بأن منها ما ارتأى القائمون عليها أن يكون أشدَّ “تحَصُّناً” وانغلاقاً، مع تسليمنا، طبعاً، بالمكانة المتميِّزة لعددٍ من الكُتاب فيها ضمن خارطة أدبنا الحديث. ومنها ما كان ألْيَنَ وأخفَّ “تمنُّعاً”؛ بحيث انفتح، فِعْلاً، على كتاب آخَرين، من غير أولئك المُنْضَوين تحت لواء حزب الجريدة، ورحَّب بنشْر إنتاجاتهم التي تستحقّ، بموضوعية، النشْر.
وقد راقني من هذه الجرائد تجربة جريدة “المُنْعَطَف”. فرغم كونها تابعةً لحزب وطني معروف، إلا أنها أبَتْ أنْ تُقصِّر ملحقها وصفحتها الثقافيتيْن على الكُتاب ذوي الارتباط بذلك الحزب فحسْبُ، أو المُدافِعين عن توجّهاته وتصوُّراته العامة. بل طالَما فتح ملحقُها الثقافي، الذي كان يَصْدر آخرَ كلّ أسبوع، وينسّق موادَّه الأستاذ عبد اللطيف بوجملة، ذِراعيْه لكل حَمَلَة القلم، ذكوراً وإناثاً، ومن مختلِف الأجيال، مرحِّباً بإبداعاتهم ومقالاتهم ومشاركاتهم شارطاً فيها الانطواءَ على مقوِّمات الكتابة المتعارَف عليها، والاتِّسامَ بالإبداعية والعُمق والجدِّية في التناوُل والمُقارَبة، دون نظرٍ إلى انتماءاتهم الحزبية والإيديولوجية والدينية وغيرها؛ إيماناً منه بسُمُوّ الثقافة الحقّة عن هذه الاعتبارات الضيّقة. فعلى صفحات هذا الملحَق قرأنا – نحن متتبِّعيه الذين كُنّا نترقب صدورَه، بشَغَف، كلَّ سبتٍ – دراساتٍ نقدية وفكريةً رَصينةً لعددٍ من كُتابنا المرموقين، ونصوصاً إبداعيةً ماتعةً لكثيرٍ من شعرائنا وقصّاصينا، وتعرَّفْنا إلى إصدارات وأخبار ثقافية متنوعة، واكتشفْنا لوحاتٍ تشكيليةً راقية. والأجْمَلُ في هذا الملحق، بحَقٍّ، انفتاحُه على الشباب المتلمِّسين طريقَهم في درْب الكتابة، وأخْذُه بأيديهم من خلال ترْحيبه بنشْر ما يستحقّ النشْرَ ممّا يكتبون في الشعر والقصة والمقالة وغيرها. ولا شكَّ في أن عدداً من كتابنا اليومَ مَدينون لهذا الملحق الذي كان أولَ بوّابةٍ يَلِجون عبْرَها عوالمَ النشْر الوَرَقيّ، قبل أن يتقوّى عُودُهم “الأدبي”، ويصيروا فاعِلين جُدًُداً في الدينامية الثقافية المعاصرة ببلدنا المِعْطاء.
وقد تأسّفنا – مِثلما تأسّف آخرون كثيرون – لتوقف المنعطف الثقافي الأسبوعي عن الصُّدور، وتمنّيْنا، بصدْق، لواستمرّ لاسيما وأنّا كُنّا نراه سائراً، بخُطىً ثابتة، نحْو نَحْت مكانة مُحترَمة له بين ملاحق جرائدنا الوطنية العريقة، ونحْوَ استقطاب المَزيد من الكتاب والقرّاء على السّواء .. إنه، بعبارة مُوجَزة، كان يَعِدُ بالكثير في قادم أيامه لو كُتبت له استمْرارية الصّدور، ولكنه توقف – أو اضطرّ إلى ذلك – لأسبابٍ بالتأكيد، لا علاقةَ لها، فيما يبدو، بالموادّ الثقافية، بل بأمور أخرى عِلْمُها، بالأساس، عند القيِّمين عليه. ورغم ذلك، فما زالت شريحةٌ مُعتبَرة من قرّائه تترقّبُ عودته إلى الصدور، باستراتيجية وبنفَس جديديْن، لاستكمال مسيرته التي كانت، في نظرنا، موفّقة إلى حدٍّ بعيد. ولَمّا كانتِ المنعطف جريدة يومية شاملة، كان لا مناصَ مِنْ أنْ يتواصل اهتمامُها بالثقافة، على غرار رصْدها أحيازاً ورقيةً للسياسة والمجتمع والرياضة وغيرها، وذلك في صورة صفحة “ثقافة” الموجَّهة لنشْر أخبار ونصوص ومقالات أدبية وفكرية مركّزة. هذا إلى جانب “المنعطف الفنيّ” الذي يصْدُر كل سبْتٍ.

ومعلومٌ أننا نعيش، اليوم، لحظةً يشهد فيها النشرُ الإلكتروني نُموّاً متزايداً باطّرادٍ، ويُؤْثِر فيها قرّاء كُثْرٌ متابَعةَ أخبار الثقافة وجديدِها عبر المَواقع والوَسائط الإعلامية الرقمية (هسبريس – هبة بريس – لكم. كوم – طنجة الأدبية – دُروب…). الأمرُ الذي يَدْعونا إلى التساؤل عن مستقبَل تلك الصفحات والملاحق الثقافية الوَرَقيّة في ظلّ تزايُد وَتيرة النشْر الإلكتروني واستقطابه جُمهوراً عَريضاً من قرّائنا. ومن وِجْهة نظري، فإنه لا خوفَ على ذلك المستقبل من هذا النشر. فلكلٍّ منهما قرّاؤه، ولكلٍّ منهما خواصّه وميزاتُه. ولا يمكنُ للنشر الرقمي أن يُعَوّض نَظيرَه الورقي، أو يحلّ مكانَه اليوم؛ رغم كل ما يُقال في هذا الإطار. فما زال كثيرون، من القراء المغاربة، يحْرِصون على اقتناء الجرائد الضّامّة بين دفّتيْها ملاحقَ ثقافيةً، وعلى “التهام” موادّها الأدبية والإبداعية بـ”لذاذة”، وعلى الاحتفاظ بها كأرْشيفٍ يزداد قيمةً مع مُرور السنين. وهذا لا يمْنعُهم، طبْعاً، من متابَعة شؤون الثقافة التي تنشرُها المواقع والمُدَوّنات والصحف الإلكترونية المتناسِلة يوماً بعد يوم. ولسْنا في حاجة، هنا، للتذكير بمَزايا المنشورات الورقية التي لا توفرها تلك الرقمية للقرّاء. ولِتضْمَنَ الملاحق الثقافية الورقية مكانتَها التنافُسيّة، واستمرارية إشْعاعها وتألّقها، ينبغي للمُشْرفين عليها أن يُراهِنوا على نشْر الجَديد في الأدب والإبداع لا الاكتفاء باقتباس ما تنشره بعض المنابر الإلكترونية، وإعادة نشْره، وعلى مراعاة حدٍّ مَعقول من الأدبية والإبداعية في الموادّ المقبولة للنشر على صفحاتها، وعلى الانفتاح على كافة الطاقات دون اعتبارٍ لأجْيالها وجنْسها وانتمائها، ما دامت موجّهةً إلى القرّاء كلِّ القرّاء.

التسميات :

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

0 التعليقات:

الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحريرــ الآراء الواردة في المقالات والبلاغات تعبرعن أصحابها وليس إدارة التحرير
back to top