صفحات الثقافة وملاحقها : سؤال الاستمرار والتطوير
سعيد يقطين أستاذ باحث وناقد رئيس إتحاد كتاب الإنترنت العرب
1 . ولادة جديدة:
عندما بدأنا الكتابة والتفكير في النشر في بدايات السبعينيات كنا نعرف جيدا المنابر الثقافية الموجودة. كما كانت عندنا فكرة جيدة عن الساحة الثقافية وأطيافها وحساسياتها والمنخرطين فيها. إن هذه المعرفة ضرورية وأساسية لأن أي كاتب قبل أن ينخرط في عملية الكتابة يكون ملزما بأن يبدأ قارئا ومتتبعا جيدا، ينصت بعمق وهدوء إلى ما يمور في الساحة الثقافية، وكأنه بذلك يتلمس
موقعه ضمن خارطة الكتابة ما دام يعافر محاولا تجويد كتاباته في ضوء المتوفر والكائن. ومن خلال تلك المتابعة المتأنية كنا نلاحظ أن اقتحام هذه الساحة والدخول إليها، محليا وعربيا، دونه خرط القتاد.
في مجال الكتابة لا يمكن أن تكون هناك محسوبية أوعلاقات. إن إنتاجك الشعري أو القصصي أو النقدي، إذا كنت مقتنعا به، وتعمل على نقده وتجويده باستمرار هو الذي يمكنك من فرض وجودك وتثبيت اسمك. وعندما ينشر لك مقال أو قصيدة في جريدة، ويظهر اسمك عليها فتلك ولادة جديدة لك، وبداية خجلى للاعتراف بك كاتبا عليه بذل الجهد المضاعف لتثبيت اسمه وطنيا، وفرض وجوده عربيا. أما التفكير في العالمية فلم يكن مطروحا في التخيل أو التصور.
2 . مراتب ومدارج:
كانت هناك مراتب ومدارج عليك أن تمر بها. وكلما قبل إنتاجك في مرتبة، تفكر في الانتقال إلى الأخرى بعد أن يصير اسمك متداولا، ويحظى بالاهتمام في هذه أو المرتبة تلك حتى تصل أعلاها، ويصير اسمك معروفا ومقبولا في الساحة الثقافية المغربية أولا والعربية ثانيا.
وكما في الرياضة لا يمكنك اللعب مع الكبار إلا إذا تدرجت من قسم الصغار إلى الشباب، وظهرت مواهبك وإمكانات تطورك ومثابرتك، وتميزك. كان الحضور الأدبي والثقافي يبدأ من الثانوية فالإذاعة فالصفحة الثقافية فالملحق الثقافي فالمجلة. وعليك التدرج في هذه المراتب، وكلما أحسست بأنك تقنع المتعاملين مع هذه المنابر،بحسب هذا الترتيب، كان ذلك عنوان امتلاكك ناصية الكتابة، وعليك الإقدام على المغامرة ومواصلتها.
كانت الإنشاءات في الإعدادي والثانوي والمجلة الحائطية عنوان التميز الذي يجعلك محط العناية والتقدير والاعتراف من لدن زملائك التلاميذ، الذين يحسون بأنك عالي الكعب في الكتابة، وأنهم لا يستطيعون مجاراتك، أو ضمان الحصول على نقطتك. كما أن التقدير نفسه تعاينه من الأساتذة ومدير الإعدادية والثانوية. فيكسبك هذا ثقة في إمكانية الصعود والارتقاء. وإلى جانب الإنشاءات “العقيمة” التي تحسن صياغتها وفق “تصميم الموضوع” الذي يفرضه الأستاذ، تكتب نصوصا شعرية أو قصصية، فيدفعك فضول تجريب مواهبك إلى تقديمها إلى الأساتذة المتميزين أو المبدعين، وتنتظر بفارغ الصبر ملاحظاتهم و”نقدهم” المشجع أو المثبط. وبحسب درجة الاقتناع الذاتي تجرب تجاوز هذه المرحلة، وتخطي هذه العتبة.
لتجاوز هذه المرتبة والانتقال إلى أخرى، عليك أن تتابع البرنامج الإذاعي “حقيبة الأربعاء” وبعد ذلك “ناشئة الأدب” الذي كان يشرف عليه الشاعر إدريس الجائي. وتفكر في مراسلته، وتنتظر أسابيع كاملة، قبل أن يفرج عن قصيدتك أو قصتك. كان هذا البرنامج مسموعا ومتابعا من لدن الشباب المبدعين، ومن خلاله تعرفت على العديد من الأسماء الشعرية التي صار لها وجود شعري في الخارطة الإبداعية المغربية. أتذكر كيف كان إدريس الجائي رحمه الله ينوه بشعر حسن الأمراني، ويذيع علينا قصائد من ديوانه “الحزن يزهر مرتين”.
إلى جانب حقيبة الأربعاء كانت صفحة “حوار” و”أصوات” في جريدة العلم أيضا ساحة للشباب، و”على الطريق” في المحرر. وعندما صارت أنوال يومية كنت أشرف على صفحة ” نقد وإبداع”. من خلال هذه الصفحات ظهرت أسماء أجيال كثيرة من الكتاب، منها ممن لا يزال يواصل الكتابة، ومنها من انقطع في بداية الطريق أو سطه. ومن خلالها أيضا كان التعرف على الأسماء الجديدة التي ينتظر تطورها لتنتقل بعد ذلك إلى الملحق الثقافي. إن أي اسم جديد لا يمكنه إلا أن يمر من هذه الصفحات. وعليك قبل أن تفكر في نشر كتاباتك في الملحق الثقافي أن تمر، ضرورة، من هذه القناة.
كان ملحق “العلم الثقافي” مدرسة حقيقية وبوابة ثقافية للأسماء التي فرضت نفسها في المغرب. وكنا لا نخطئ الموعد معه عندما كان يصدر كل يوم جمعة، قبل أن يتحول إلى يوم السبت.ويمكن قول الشيء نفسه عن ملحق جريدة المحرر فالاتحاد الاشتراكي، ثم بعد ذلك “أنوال الثقافي”. ثم ظهرت بعد ذلك ملاحق وجرائد ثقافية أخرى منذ أواسط الثمانينيات، ولكن ليس بالعنفوان الذي كان في السبعينيات. كان الساهرون على هذه الملاحق يتعاملون بجدية وإبداعية مع الكتابات الشابة.وكان معنى النشر في أحد هذه الملاحق أنك صرت كاتبا في المجال الذي تخصصت فيه، وأنك أهل لمواصلة مغامرة الكتابة، وأنك جدير بالاعتراف بك “كاتبا” يحظى بعضوية “اتحاد كتاب المغرب”، ويستدعى للمشاركة في الندوات واللقاءات.
بعد فرض الاسم في الملاحق الثقافية المتميزة، يأتي النشر في المجلات المغربية، وكانت آفاق وأقلام والثقافة الجديدة، ثم بعد ذلك المدينة، منابر جادة ومتميزة، ومجلات أخرى ستظهر في الثمانينيات والتسعينيات. ثم يشرع التفكير في مراسلة المجلات العربية، وكانت الطليعة الأدبية والأقلام والآداب وشعر ومواقف ودارسات عربية من المنابر التي كان لها حضور قوي في المغرب، وساهمت في نشر العديد من الأسماء المغربية والتعريف بها عربيا.
3 . تحول وانحدار:
منذ التسعينيات بدأت تفقد صفحات الثقافة وملاحقها إشعاعها ودورها في احتضان الكتاب ذوي المواهب الحقيقية. وبدأت تتدخل عوامل لا علاقة لها بنشر الإبداعات، فساد التسيب والفوضى. ولعل من العوامل التي ساهمت ذلك ما يلي:
ـ كثرة الجرائد والملاحق الثقافية: لقد تضاعف عدد الجرائد، وصارت لكل منها صفحاتها الثقافية وملاحقها.
ـ غياب الإشراف الرمزي لشخصية أدبية أو ثقافية معروفة ذات مصداقية. وصار أي صحفي، مهما كانت علاقته بالأدب والثقافة، بإمكانه الإشراف على صفحة أو ملحق ثقافي.
ـ عدم الصرامة والجدية في تقييم الإبداعات، وبدأت تتدخل عوامل إيديولوجية أو علاقات شخصية أو تنافسية أو تسويقية في النشر.
وبالتدريج بدأت تصبح الكتابة عملية سهلة. كما أن نشر، ليس فقط القصيدة أو القصة، ولكن الديوان والمجموعة القصصية والرواية، صار في المتناول، وفي زمن قياسي، وبدون أي تعقيد. وصار ظهور الكتاب يتم وفق آليات لا علاقة لها بما كان في الستينيات والسبيعينيات. لقد فقدت الصفحات والملاحق إشعاعها ودورها في تطوير الإبداع. وتقلصت الصفحات والملاحق الثقافية، إلى درجة أن “الإعلام الثقافي” صار وجوده كعدمه. بل يمكننا الذهاب إلى انعدامه نهائيا. وبعض الصفحات التي تعنون بـ”الثقافية” في الإعلام المغربي عاجزة كل العجز عن تقديم صورة واقعية أو حقيقية عما تعرفه الساحة الثقافية عموما، والأدبية على وجه الخصوص. فهي لا تعرف بالإصدارات الجديدة، ولا تواكبها. كما أنها لا تقدم إبدعات الكتاب وقراءات النقاد للإنتاج المغربي ولا تسهم في توجيه وتأطير الواقع الثقافي، أو تفتح النقاش حول بعض الظواهر الأدبية والثقافية.
4 . تحول وانفلات ثقافي:
تضاعف عدد الكتاب الذين ينشرون نصوصا أو يطبعون كتبا، كما تزايد عدد الكاتبات. وإذا كانت آليات ولادة كاتب جديد في الستينيات وحتى الثمانينيات تسمح لكل متتبع بالتعرف على هذا الكاتب وهو يتدرج في عملية الكتابة والنشر، فإن تغير الآليات صار لا يسمح لأي متتبع، مهما كانت جديته في المتابعة، في التعرف على الكتاب والكاتبات الجدد. وإذا كان جزء من هذا الواقع الجديد يعود، كما أسلفنا، إلى تردي وانحدار مستوى الإعلام الثقافي المغربي، نجد جزءا آخر منه يعود إلى ظهور الوسائط المتفاعلة، مع بداية الألفية الثالثة، واعتماد العديد من الكتاب المغاربة الشباب على الشبكات الاجتماعية الرقمية ( RSN) لنشر إبداعاتهم، أو إنشاء مدونات أومنتديات أو مواقع شخصية لتقديم كتاباتهم سواء في مجالات الإبداع أو النقد أو الثقافة.
لايمكن لأي كان أن يعارض أي تحول، أو ظهور آليات جديدة ومغايرة لفرز الكتاب والمبدعين والمثقفين. لكن أي تحول، سواء كان انحدارا أو انفلاتا ثقافيا، لا يصب في مسار تطوير الإبداع المغربي والارتقاء به، لا يمكن إلا أن يجعلنا أمام واقع ثقافي يغيب فيه التواصل بين الكتاب أنفسهم. وإذا كان التواصل بين الكتاب مستحيلا، فكيف سيكون مع عموم متلقي هذا الإنتاج؟ يمكن لأي كان أن يزعم أو يدعي أنه كاتب جديد، ورقيا كان أو إلكترونيا أو رقميا، ولكن أن يكون الكاتب بدون قراء، أو متابعين فليس كاتبا.
لا يمكن للكتابة الأدبية، أو لأي عمل ثقافي كيفما كان نوعه، ورقيا أو رقميا، أن يتطور أو يفرض وجوده، ويكون له أثر أو تأثير في واقعنا الثقافي، بدون تواصل بين مختلف الأطراف التي تسهم في تكوينه وتطويره. إن التواصل هو جوهر العملية الإبداعية والثقافية. وتبعا لذلك أرى أن استثمار كل الوسائط التي تستعمل في التواصل، من الشفاهي إلى الطباعي إلى الرقامي، ضروري لتطوير الثقافة ببلادنا. ولا يمكن لأي وسيط، كيفما كانت جدته أو إمكاناته، أن يكون بديلا عن غيره.
إن المشكل الحقيقي، حين يتعلق الأمر بالإبداع والكتابة والثقافة بالمغرب، ليس في واقع الحال، وسائطيا، ولكنه تواصلي وإبداعي. ولكي يحصل التواصل الإبداعي لا بد من الانطلاق من التقاليد الأساسية في الإبداع والكتابة، ولا بد من انتهاج الصرامة والجدية في التعامل النقدي الموضوعي مع الإبداع. ولعل تطوير الإعلام الثقافي المغربي، بنوعيه الورقي والإلكتروني، من خلال وعيه بدوره في بلورة عمل ثقافي جاد هو الكفيل باستعادة دور الكتابة والأدب في المجتمع.
يمكن لاستغلال الشبكات الاجتماعية الرقمية واستثمارها في الإبداع والثقافة أن يكون مفيدا في الترويج والترويج المضاد، وفي تشكيل الحساسيات والحساسيات المضادة. ولكن في غياب الجدية والنقد الذاتي والموضوعي لا يمكننا إنتاج الأدب الرفيع الذي هو عنوان الإبداع الحقيقي. كما أنه في غياب التفاعل بين النشر الورقي والنشر الإلكتروني، عن طريق كون كل منهما في خدمة الآخر، لا يمكن للتعريف أو للتعرف على التجارب المتميزة أن يتحقق، ولا يمكن للتواصل أن يتم بين مختلف الفاعلين في المجال الأدبي والثقافي.
إن هناك تكاملا بين الورقي والإلكتروني. ومن الضروري أن يتعزز إعلامنا الثقافي وتتضافر الجهود بين مختلف الفاعلين والناشطين في المجال الثقافي بصفة عامة، ويتعاون الإعلام الورقي مع الإلكتروني لتقريب الإبداع المغربي من الجمهور المغربي، ليحصل التواصل المنشود، وتكون المساهمة جماعية في تطوير الإبداع والنقد ببلادنا. ولعل المدخل الطبيعي والضروري لذلك هو إيماننا أولا بضرورة الانخراط الجماعي في العمل بدون عقدة التفوق أو ادعاء الجدة. وثانيا تجاوز الوعي المبني على حساسيات الإقصاء والإلغاء للآخر. وثالثا، وهذا مهم جدا ممارسة الحوار الجاد بدون عقدة أبوية أو وهم امتلاك البدائل، أو توهم صراع الأجيال.
ولعل المطلوب إلى جانب ذلك أولا وأخيرا هو إدراك الوسائط الجماهيرية بمختلف أنواعها: الجرائد المكتوبة، سواء كانت مستقلة أو حزبية، وكذلك برامج الإذاعة والتلفزيون أن للأدب والثقافة دورا كبيرا في التواصل بين المغاربة. وعليه فالمطلوب استعادة صفحات الثقافة والملاحق الثقافية مكانتها على مستوى الحضور، والعمل على تطويرها، والتعامل معها تعاملها مع الرياضة، لا كشيء زائد ناقص؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن البرامج الثقافية والأدبية في الإذاعة والتلفزيون من خلال إقدام الكتاب والمثقفين على إعداد لتصورات لبرامج تخدم الإبداع والثقافة المغربيين. كما يمكن للشبكات الاجتماعية الرقمية أن تقوم بدورها في تعزيز هذا الحضور وتأكيده عن طريق توسيع دائرة الفاعلين والناشطين والمستعملين وعموم الجمهور. بذلك يمكننا المساهمة في تطوير المغرب الثقافي لأنه هو رهان تطور المجتمع المغربي. وبدون خطوات عملية في هذا الاتجاه، سيمر الزمن، وسنجد أنفسنا نكرر الكلام ذاته والمطالب عينها حول آليات تطوير صفحاتنا وملاحقنا وإعلامنا الثقافي،،، وحول تجويد إبداعنا ونقدنا الأدبي والثقافي ليتماشى مع الإمكانات والطاقات التي يزخر بها مجتمعنا وتاريخنا.
0 التعليقات: